الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَـٰذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ }

أتبع إبطال ترّهاتهِمْ الطاعنة في القرآن بهذا الكلام المفيد زيادة الإبطال لمزاعمهم بالتذكير بنظير القرآن ومثيل له من كتب الله تعالى هو مشهور عندهم وهو «التوراة» مع التنويه بالقرآن ومزيته والنعي عليهم إذ حرموا أنفسهم الانتفاع بها، فعطفت هذه الآية على التي قبلها لارتباطها بها في إبطال مزاعمهم وفي أنها ناظرة إلى قولهوشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله } الأحقاف 10 كما تقدم. ففي قوله { ومن قبله كتاب موسى } إبطال لإحالتهم أن يُوحي الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم بأن الوحي سُنّة إلهٰية سابقة معلومة أشهره «كتاب موسى»، أي «التوراة» وهم قد بلغتهم نبوءته من اليهود. وضمير { من قبله } عائد إلى القرآن. وتقديم { من قبله } للاهتمام بهذا الخبر لأنه محل القصد من الجملة. وعبر عن «التّوراة» بــ { كتاب موسى } بطريق الإضافة دون الاسم العلم وهو «التوراة» لما تؤذن به الإضافة إلى اسم موسى من التذكير بأنه كتاب أنزل على بشر كما أنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم تلميحاً إلى مثار نتيجة قياس القرآن على «كتاب موسى» بالمشابهة في جميع الأحوال. و { إماماً ورحمة } حالان من { كتاب موسى } ، ويجوز كونهما حالين من { موسى } والمعنيان متلازمان. والإمام حقيقته الشيء الذي يجعله العامل مقياساً لعمل شيء آخر ويطلق إطلاقاً شائعاً على القدوة قال تعالىواجعلنا للمتقين إماماً } الفرقان 74. وأصل هذا الإطلاق استعارة صارت بمنزلة الحقيقة، واستعير الإمام لكتاب موسى لأنه يرشد إلى ما يجب عمله فهو كمن يرشد ويعظ، وموسى إمام أيضاً بمعنى القدوة. والرحمة اسم مصدر لِصفة الراحم وهي من صفات الإنسان فهي، رقة في النفس تبعث على سَوق الخير لمن تتعدى إليه. ووصف الكتاب بها استعارة لكونه سبباً في نفع المتبعين لما تضمنه من أسباب الخير في الدنيا والآخرة. ووصف الكتاب بالمصدر مبالغة في الاستعارة، وموسى أيضاً رحمة لرسالته كما وصف محمد صلى الله عليه وسلم بذلك في قولهوما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } الأنبياء 107. وقوله { وهذا كتاب مصدق } الخ هو المقيس على { كتاب موسى }. والإشارة إلى القرآن لأنه حَاضر بالذِكر فهو كالحاضر بالذات. والمصدِّق المخبر بصدق غيره. وحذف مفعول المصدِّق ليشمل جميع الكتب السماوية، قال تعالى { مصدقا لما بين يديه } ، أي مخبر بأحقيّة كل المقاصد التي جاءت بها الكتب السماوية السالفة. وهذا ثناء عظيم على القرآن بأنه احتوى على كل ما في الكتب السماوية وجاء مغنياً عنها ومبيناً لما فيها. والتصديق يشعر بأنه حاكم على ما اختُلف فيه منها. وما حُرّف فهمه بها قال تعالىمصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه } المائدة 48. وزاده ثناء بكونه { لساناً عربياً } ، أي لغة عربيّة فإنها أفصح اللغات وأنفذها في نفوس السامعين وأحب اللغات للناس، فإنها أشرف وأبلغ وأفصح من اللغة التي جاء بها كتاب موسى، ومن اللغة التي تكلّم بها عيسى ودوّنها أتباعُه أصحاب الأناجيل.

السابقالتالي
2