الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ }

{ ٱدْعُ إِلِىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ وَجَـٰدِلْهُم بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ }. يتنزل معنى هذه الآية منزلة البيان لقولهأن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً } سورة النحل 123 فإن المراد بما أوحي إليه من اتّباع ملّة إبراهيم هو دين الإسلام، ودين الإسلام مبنيّ على قواعد الحنيفية، فلا جرم كان الرسول بدعوته الناس إلى الإسلام داعياً إلى اتّباع ملّة إبراهيم. ومخاطبة الله رسوله بهذا الأمر في حين أنه داع إلى الإسلام وموافق لأصول ملّة إبراهيم دليل على أن صيغة الأمر مستعملة في طلب الدّوام على الدعوة الإسلامية مع ما انضمّ إلى ذلك من الهداية إلى طرائق الدعوة إلى الدين. فتضمّنت هذه الآية تثبيت الرسول على الدعوة وأن لا يؤيسه قول المشركين لهإنما أنت مفتر } سورة النحل 101 وقولهمإنما يعلّمه بشر } سورة النحل 103 وأن لا يصدّه عن الدعوة أنه تعالى لا يهدي الذين لا يؤمنون بآيات الله. ذلك أن المشركين لم يتركوا حيلة يحسبونها تثبّط النبي عن دعوته إلا ألقوا بها إليه من تصريح بالتكذيب، واستسخار، وتهديد، وبذاءة، واختلاق، وبهتان، كما ذلك محكي في تضاعيف القرآن وفي هذه السورة، لأنهم يجهلون مراتب أهل الاصطفاء ويزنونهم بمعيار موازين نفوسهم، فحسبوا ما يأتونه من الخزعبلات مثبطاً له وموشكاً لأن يصرفه عن دعوتهم. وسبيل الربّ طريقهُ. وهو مجاز لكل عمل من شأنه أن يبلّغ عاملَه إلى رضى الله تعالى، لأن العمل الذي يحصل لعامله غرض ما يُشبهِ الطريقَ الموصل إلى مكان مقصود، فلذلك يستعار اسم السبيل لسبب الشيء. قال القرطبي إن هذه الآية نزلت بمكّة في وقت الأمر بمهادنة قريش، أي في مدّة صُلح الحديبية. وحكى الواحدي عن ابن عباس أنها نزلت عقِب غزوة أُحد لما أحزن النبي منظرُ المُثلة بحمزة رضي الله عنه وقال لأقتلنّ مكانه سبعين رجلاً منهم. وهذا يقتضي أن الآية مدنية. ولا أحسب ما ذكراه صحيحاً. ولعلّ الذي غَرّ مَن رواه قولهوإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } النحل 126 كما سيأتي، بل موقع الآية متّصل بما قبله غير محتاج إلى إيجاد سبب نزول. وإضافة { سبيل } إلى { ربك } باعتبار أن الله أرشد إليه وأمر بالتزامه. وهذه الإضافة تجريد للاستعارة. وصار هذا المركب علماً بالغلبة على دين الإسلام، كما في قوله تعالىإن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدّوا عن سبيل الله } سورة الأنفال 36، وهو المراد هنا، وفي قوله عقبهإن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله } سورة النحل 125. ويطلق سبيل الله علماً بالغلبة أيضاً على نصرة الدين بالقتال كما في قوله تعالىوجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله } سورة التوبة 41. والباء في قوله { بالحكمة } للملابسة، كالباء في قول العرب للمعرّس بالرفاء والبنين، بتقدير أعرست، يدل عليه المقام، وهي إما متعلقة بــــ { ادع } ، أو في موضع الحال من ضمير { ادع }.

السابقالتالي
2 3 4 5 6