الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ }

عطف علىوإذ جعلنا البيت مثابة } البقرة 125 لإفادة منقبة ثالثة لإبراهيم عليه السلام في استجابة دعوته بفضل مكة والنعمة على ساكنيها إذا شكروا، وتنبيه ثالث لمشركي مكة يومئذ ليتذكروا دعوة أبيهم إبراهيم المشعرة بحرصه على إيمانهم بالله واليوم الآخر حتى خص من ذريته بدعوته المؤمنين فيعرض المشركون أنفسهم على الحال التي سألها أبوهم فيتضح لهم أنهم على غير تلك الحالة، وفي ذلك بعث لهم على الاتصاف بذلك لأن للناس رغبة في الاقتداء بأسلافهم وحنيناً إلى أحوالهم، وفي ذلك كله تعريض بهم بأن ما يدلون به من النسب لإبراهيم ومن عمارة المسجد الحرام ومن شعائر الحج لا يغني عنهم من الإشراك بالله، كما عرض بالآيات قبل ذلك باليهود والنصارى وذلك في قوله هنا { ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير } وبه تظهر مناسبة ذكر هذه المنقبة عقب قوله تعالىوإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً } البقرة 125. واسم الإشارة في قوله { هذا بلداً } مراد به الموضع القائم به إبراهيم حين دعائه وهو المكان الذي عليه امرأته وابنه وعزم على بناء الكعبة فيه إن كان الدعاء قبل البناء، أوا لذي بني فيه الكعبة إن كان الدعاء بعد البناء، فإن الاستحضار بالذات مغن عن الإشارة الحسية باليد لأن تمييزه عند المخاطب مغن عن الإشارة إليه فإطلاق اسم الإشارة حينئذ واضح. وأصل أسماء الإشارة أن يستغنى بها عن زيادة تبيين المشار إليه تبييناً لفظياً لأن الإشارة بيان، وقد يزيدون الإشارة بياناً فيذكرون بعد اسم الإشارة اسماً يعرب عطف بيان أو بدلاً من اسم الإشارة للدلالة على أن المشار إليه قصد استحضاره من بعض أوصافه كقولك هذا الرجل يقول كذا، ويتأكد ذلك إن تركت الإشارة باليد اعتماداً على حضور المراد من اسم الإشارة. وقد عدل هنا عن بيان المشار إليه اكتفاء عنه بما هو الواقع عند الدعاء، فإن إبراهيم دعا دعوته وهو في الموضع الذي بنى فيه الكعبة لأن الغرض ليس تفصيل حالة الدعاء إنما هو بيان استجابة دعائه وفضيلة محل الدعوة وجعل مكة بلداً آمناً ورزق أهله من الثمرات، وتلك عادة القرآن في الإعراض عما لا تعلق به بالمقصود ألا ترى أنه لما جعل البلد مفعولاً ثانياً استغنى عن بيان اسم الإشارة، وفي سورة إبراهيم 35 لما جعلآمناً } مفعولاً ثانياً بين اسم الإشارة بلفظ البلد، فحصل من الآيتين أن إبراهيم دعا لبلد بأن يكون آمناً. والبلد المكان المتسع من الأرض المتحيز عامراً أو غامراً، وهو أيضاً الأرض مطلقاً، قال صَنَّان اليشكري
لَكِنَّه حَوْضُ مَن أَوْدَى بإخْوَتِهِ رَيْبُ المَنونِ فأضحى بَيْضَة البلد   
يريد بيضة النعام في أدحيّ النعام أي محل بيضه، ويطلق البلد على القرية المكونة من بيوت عدة لسكنى أهلها بها وهو إطلاق حقيقي هو أشهر من إطلاق البلد على الأرض المتسعة والظاهر أن دعوة إبراهيم المحكية في هذه الآية كانت قبل أن تتقرى مكة حيث لم يكن بها إلا بيت إسماعيل أو بيت أو بيتان آخران لأن إبراهيم ابتدأ عمارته ببناء البيت من حجر، ولأن إلهام الله إياه لذلك لإرادته تعالى مصيرها مهيع الحضارة لتلك الجهة إرهاصاً لنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن ذلك المكان كان مأهولاً بسكان وقت مجيء إبراهيم وامرأته وابنه، والعرب يذكرون أنه كان في تلك الجهة عشائر من جرهم وقطوراً والعمالقة والكركر في جهات أجياد وعرفات.

السابقالتالي
2 3 4