الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَـٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ }

لما ظهر مما سبق، أن رجعة النفوس إلى فطرتها الأصلية بعد اكتسابها طريقة الخذلان والشقاوة والحرمان أمر مستحيل، وقعت ها هنا للأذهان الوهمانية مظنة شبهة هي: أنه لماذا لم تخلق النفوس كلها من الله سعداء من أهل الهداية والرحمة؟ حتى لا يكونوا مجرمين محرومين عن درجات الجنان والسعادة والرضوان؟

فأزال تعالى هذا الوهم، وأزاح إمكان وقوعه في الخارج، لأن ما هو الواقع على أشرف الإمكانات وترجيح الأخس على الأشرف، مستحيل الوقوع من الواهب الحق، والمحال لا يكون مقدوراً عليه، لأنه لا شيء محض لا ماهية له، وإنما هو أمر يخترعه الوهم الكاذب.

فقال: { وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } ، بالتوفيق والإيمان وإلجائها لسلوك سبيل الرحمة والرضوان، ولكنه ينافي الحكمة والمصلحة الكلية المقتضية لحفظ النظام على أفضل ما يمكن من الوجود والقوام، إذ لو كان الأمر كما توهم، لبقيت النفوس كلها على طبقة واحدة، وفات بقاء سائر الطبقات المتصورة في حيز الإمكان من غير أن يخرج من الكمون والبطون إلى منصة البروز والظهور، والرحمة مقتضية لايصال كل مستحق إلى ما يليق به، لئلاّ تخلو أكثر مراتب هذا العالم عن أربابها، فتبقى في العدم أمور جمة غفيرة، ولا تتمشى الأمور الخسيسة، التي يحتاج إليها في بقاء النفوس الشريفة، كيف ولو لم يكن الكنّاس والحجّام في العالم، لاضطر الحكيم إلى مباشرة الكنس والحجامة.

ولا بد أيضاً في ظهور بعض صفات الله الجلالية من وجود أهل الحجاب والذلة والقسوة والظلمة، البعداء عن الرحمة والمحبة والنور، وإلاَّ فلا ينضبط نظام العالم، ولا يتم صلاح المهتدين لوجود الاحتياج إلى سائر الطبقات، كما لَوّحْنا إليه من أن المظاهر لو كانت كلها أنبياء وأولياء وأخياراً لاختل بقاؤهم بعدم النفوس الغلاظ والشياطين من الإنس والجن القائمين بعمارة هذا العالم، ألا ترى إلى ما ورد في قوله تعالى: إني جعلت معصية آدم سبباً لعمارة العالم.

فوجب في الحكمة الحقّة الإلهية، التفاوت في الاستعدادات بالقوة والضعف، والصفاء والكدورة، وترتب الدرجات على حسبها، والحكم بوجود كل طبقة من السعداء والأشقياء في الفضائل والرذائل، لتجلّي الله سبحانه بجميع الصفات، ويظهر منه جميع أسمائه الحسنى، فإن الغفور، والعفو، والعدل، والمنتقم، والتوّاب، والمضلّ وأمثالها أسماء لا يتجلّى الحق بها إلاَّ إذا جرى على العبد ذنب.

ولذلك وقع في الحديث: " لولا أنكم تذنبون لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون " وعن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم): " أنين المذنبين أحبّ إلي من زجل المُسَبّحين ".

وإليه الإشارة بقوله: { وَلَـٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنِّي } أي بحسب اقتضاء العناية الأزلية والقضاء السابق، وكثيراً ما أطلق القول والكتابة من قبل الله سبحانه، ويراد الفعل من جهة ما يوجبه التقدير الأزلي المنوط بالأسباب القصوى الإلهية، كقوله تعالى:

السابقالتالي
2