الرئيسية - التفاسير


* تفسير مجمع البيان في تفسير القرآن/ الطبرسي (ت 548 هـ) مصنف و مدقق


{ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱصْفَحْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ }

القراءة: قرأ حمزة والكسائي قَسيّة بغير ألف وقرأ الباقون قاسية بالألف. الحجة: حجة من قرأ قَسيّة أن فعيلاً قد يجيء بمعنى فاعل مثل شاهد وشهيد وعالم وعليم وعارف وعريف ومن قرأ قاسية فلأنه الأعرف والأكثر في مجرى العادة. اللغة: القسوة خلاف اللين والرقة وأنشد أبو عبيدة:
وقد قسوت وقسا لداتي   
أي فارقني لين الشباب ولدوته فالقاسي الشديد الصلابة قال أبو العباس: الدرهم إنما يُسمَّى قَسيّاً إذا كان فاسداً زائفاً لشدة صوته بالقسو الذي فيه قال أبو زبيد يصف وقع المساحي في الحجارة:
لَها صَوَاهِلُ في صُمِّ السِّلامِ كَما   صاحَ القَسيَّاتُ في أَيْدِي الصَّيارِيفِ
قال أبو علي أحسب قَسيّاً في الدراهم مُعرّباً وإذا كان مُعرّباً لم يكن من القسي العربي في شيء أَلا ترى قابوس وإبليس وجالوت وطالوت ونحو ذلك من الأسماء الأعجمية التي من ألفاظها عربي لا يكون مشتقة من باب القبس والإبلاس يدلك على ذلك منعهم الصرف فيها والخائنة الخيانة وفاعلة في أسماء المصادر كثير نحو عافاه الله عافية وأهلكوا بالطاغية وليس لوقعتها كاذبة. ويقال: سمعت ثاغية الغنم وراغية الإبل وقد يقال رجل خائنة على المبالغة قال الشاعر:
حَدَّثْتَ نَفْسَكَ بِالوَفاءِ وَلَمْ تَكُنْ   لِلْغَـــدْر خائِنَةً مُغِلَّ الإصْبَعِ
قولـه: مغل الإصبع بدل من خائنة. الإعراب: ما في قولـهم { فبما نقضهم } زائدة مؤكدة أي فبنقضهم ميثاقهم ومثله قول الشاعر:
لشيء ما يُسوَّد من يسودُ   
يحرفون في موضع نصب على الحال من قولـه: { فبما نقضهم ميثاقهم } أي محرفين الكلم ويجوز أن يكون كلاماً مستأنفاً ويكون التمام عند قولـه قاسية وقليلاً منهم نصب على الاستثناء من الهاء والميم في قولـه: { على خائنة منهم } المعنى: ثم عطف سبحانه على ما تقدم فقال { فبما نقضهم ميثاقهم لعنَّاهم } فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا تعجبن يا محمد من هؤلاء اليهود الذين همّوا أن يبسطوا أيديهم إليك وإلى أصحابك وينكثوا العهد الذي بينك وبينهم ويغدروا بك فإن ذلك دأبهم وعادة أسلافهم الذين أخذت ميثاقهم على طاعتي في زمن موسى وبعثت منهم اثني عشر نقيباً فنقضوا ميثاقي وعهدي فلعنتهم بنقضهم ذلك العهد والميثاق. وفي الكلام محذوف اكتفى بدلالة الظاهر عليه وتقديره فنقضوا ميثاقهم فلعناهم بنقضهم ذلك الميثاق والعهد المؤكد أي طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا على وجه العقوبة عن عطاء وجماعة. وقيل: معناه مسخناهم قردة وخنازير عن الحسن ومقاتل. وقيل: عذبناهم بالجزية عن ابن عباس وكان نقضهم الميثاق من وجوه فمنها أنهم كذبوا الرسل وقتلوا الأنبياء ونبذوا الكتاب وضيَّعوا حدوده وفرائضه عن قتادة ومنها أنهم كتموا صفة النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن عباس. { وجعلنا قلوبهم قاسية } أي يابسة غليظة تنبو عن قبول الحق ولا تلين عن ابن عباس ومعناه سلبناهم التوفيق واللطف الذي تنشرح به صدورهم حتى ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون وهذا كما يقول الإنسان لغيره أفسدت سيفك إذا ترك تعاهده حتى صدئ وجعلت أظافيرك سلاحك إذا لم يقصّها وقيل معناه بيّنا عن حال قلوبهم وما هي عليها من القساوة وحكمنا بأنهم لا يؤمنون ولا تنجع فيهم موعظة عن الجبائي وقيل معنى قاسية رديئة فاسدة مثل الدراهم القسية إذا كانت زائفة وهذا راجع إلى معنى اليبس أيضاً لأنها تكون يابسة الصوت لما فيها من الغش والفساد ويقال: للرحيم لين القلب ولغير الرحيم يابس القلب.

السابقالتالي
2