الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِّنَ ٱللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ }

لما كان المقصود من ذكر وهن المنافقين في القتال تشديد نفس النبي صلى الله عليه وسلم وأنفُسِ المؤمنين حتى لا يرهبوهم ولا يخشوا مساندتهم لأهل حرب المسلمين أحلاف المنافقين قريظة وخيبر أعقب ذلك بإعلام المؤمنين بأن المنافقين وأحلافهم يخشون المسلمين خشية شديدة وُصفت شدتها بأنها أشد من خشيتهم الله تعالى، فإن خشية جميع الخلق من الله أعظم خشية فإذا بلغت الخشية في قلب أحد أن تكون أعظم من خشية الله فذلك منتهى الخشية. والمقصود تشديد نفوس المسلمين ليعلموا أن عدوّهم مُرهَب منهم، وذلك مما يزيد المسلمين إقداماً في محاربتهم إذ ليس سياق الكلام للتسجيل على المنافقين واليهود قلة رهبتهم لله بل إعلام المسلمين بأنهم أرهب لهم من كل أعظم الرهبات. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين. والصدور مراد بها النفوس والضمائر لأن محل أجهزتها في الصدور. والرَّهبة مصدر رهب، أي خاف. وقوله { في صدورهم } لـ { رهبة } فهي رهبة أولئك. وضمير { صدورهم } عائد إلىالذين نافقوا } الحشر 11 والذين كفروا من أهل الكتاب } الحشر 11 إذ ليس اسم أحد الفريقين أولى بعود الضمير إليه مع صلاحية الضمير لكليهما، ولأن المقصودِين بالقتال هم يهود قريظة وخيبر وأما المنافقون فكانوا أعواناً لهم. وإسناد { أشَدّ } إلى ضمير المسلمين المخاطبين إسناد سببيّ كأنه قيل لرهبتكم في صدورهم أشد من رهبة فيها. فالرهبة في معنى المصدر المضاف إلى مفعوله، وكل مصدر لفعل متعدّ يحتمل أن يضاف إلى فاعله أو إلى مفعوله، ولذلك فسره الزمخشري بأشد مرهوبية. و { من الله } هو المفضل عليه، وهو على حذف مضاف، أي من رهبة الله، أي من رهبتهم الله كما قال النابغة
وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي على وَعِلٍ في ذي المطارة عاقل   
أي على مخافة وَعل. وهذا تركيب غريب النسج بديعه. والمألوف في أداء مثل هذا المعنى أن يقال لَرهبتهم منكم في صدورهم أشد من رهبتهم من الله، فحُوّل عن هذا النسج إلى النسج الذي حبك عليه في الآية، ليتأتّى الابتداء بضمير المسلمين اهتماماً به وليكون متعلّق الرهبة ذوات المسلمين لتوقع بطشهم وليأتي التمييز المحول عن الفاعل لما فيه من خصوصية الإِجمال مع التفصيل كما تقرر في خصوصية قوله تعالىواشتعل الرأس شيباً } مريم 4 دون واشتعل شيبُ رأسي. وليتأتى حذف المضاف في تركيب { من الله } ، إذ التقدير من رهبة الله لأن حذفه لا يحسن إلا إذا كان موقعه متصلاً بلفظ { رهبة } ، إذ لا يحسن أن يقال لرهبتهم أشد من الله. وانظر ما تقدم عند تفسير قوله تعالىإذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشدّ خشية } في سورة النساء 77. فاليهود والمنافقون من شأنهم أن يخشوا الله.

السابقالتالي
2