الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَآ إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُـواْ عَذَابَ ٱلْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }

هذا جواب عن قولهمربنا أبصرْنَا وسمِعنا } السجدة 12 الذي هو إقرار بصدق ما كانوا يكذّبون به، المؤذِن به قولهم { ربّنا أبصَرْنا وسمعنا }. فالفاء لتفريع جواب عن إقرارهم إلزاماً لهم بموجب إقرارهم، أي فيتفرع على اعترافكم بحقية ما كان الرسول يدعوكم إليه أن يلحقكم عذاب النار. ومجيء التفريع من المتكلم على ما هو من كلام المخاطب فيه إلزام بالحجة كالفاءات في قوله تعالىقال فاخرج منها فإنك رجيم } الحجر 34 وقولهقال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم قال فبعزتك لأغْوِينَّهم أجمعين } ص 79 ــــ 82، وقولهفالحقَّ والحقَّ أقول لأملأنّ جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } ص 84 ــــ 85 فهذه خمس فاءات كل فاء منها هي تفريع من المتكلم بها على كلام غيره. وقد تقدم ذلك في العطف بالواو عند قوله تعالىقال ومن ذريتي } في سورة البقرة 124 واستعمال الذوق بمعنى مطلق الإحساس مجاز مرسل تقدم عند قوله تعالىليَذوق وبالَ أمرِه } في سورة العقود 95. ومفعول ذوقوا } محذوف دل عليه السياق، أي فذوقوا ما أنتم فيه مما دعاكم إلى أن تسألوا الرجوع إلى الدنيا. والنسيان الأول الإهمال والإضاعة، وتقدم في قوله تعالىفنسي } في سورة طه 88. والباء للسببية، أي بسبب إهمالكم الاستعداد لهذا اليوم. والنسيان في قوله { نسِيناكم } مستعمل في الحرمان من الكرامة مع المشاكلة. واللقاء حقيقته العثور على ذات، فمنه لقاء الرجل غيره وتجيء منه الملاقاة، ومنه لقاء المرء ضالة أو نحوها. وقد جاء منه شيء لَقىً، أي مطروح. ولقاء اليوم في هذه الآية مجاز في حلول اليوم ووجوده على غير ترقب كأنه عُثِر عليه. وإضافة يوم إلى ضمير المخاطبين تهكم بهم لأنهم كانوا ينكرونه فلما تحققوه جُعل كأنه أشد اختصاصاً بهم على طريقة الاستعارة التهكمية لأن اليوم إذا أضيف إلى القوم أو الجماعة إذا كان يوم انتصار لهم على عدوهم قال السموأل
وأيامنا مشهورة في عدوِّنا لها غررٌ معلومة وحجول   
ويقولون أيامُ بني فلان على بني فلان، أي أيام انتصارهم. وسبب ذلك أن تقدير الإضافة على معنى اللام وهي تفيد الاختصاص المنتزع من المِلك، قال عمرو بن كلثوم
وأيَّامٍ لنا غُرٍّ طوالٍ   
وقال تعالىذلك اليوم الحق } النبأ 39، أي يوم نصر المؤمنين على المشركين في الآخرة نصراً مؤبَّداً، أي ليس كأيامكم في الدنيا التي هي أيام نصر زائل. والإشارة بــــ { هذا } إلى اليوم تهويلاً له. وجملة { إنَّا نسِيناكم } مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن المجرمين إذا سمعوا ما علموا منه أنهم ملاقو العذاب من قوله { فذوقوا بما نسِيتم لقاء يومكم هذا } تطلعوا إلى معرفة مدى هذا العذاب المَذوق وهل لهم منه مخلص وهل يُجابون إلى ما سألوا من الرجعة إلى الدنيا ليتداركوا ما فاتهم من التصديق، فأعلموا بأن الله مُهمل شأنهم، أي لا يستجيب لهم وهو كناية عن تركهم فيما أُذيقوه.

السابقالتالي
2