الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَلَئِنْ أَتَيْتَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ ٱلظَّالِمِينَ }

{ وَلَئِنْ أَتَيْتَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ } أي: من اليهود والنصارى { بِكُلِّ آيَةٍ } أي: برهان قاطع أنَّ التوجه إلى الكعبة هو الحق { مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ } أي: هذه التي حوّلت إليها؛ لأن تركهم اتباعك ليس عن شبهة تزيلها بإيراد الحجة، إنما هو عن مكابرة وعناد، مع علمهم بما في كتبهم من نعتك أنك على الحق، وقوله تعالى: { وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ } هذا حسم لأطماعهم في العود إليها. أو للمقابلة. يعني ما هم بتاركي باطلهم وما أنت بتارك حقك. { وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ } فلا أتفاق بين فريقيهم، مع كون الكل من بني إسرائيل. قال الزمخشري: أخبر تعالى عن تصلب كل حزب فيما هو فيه وثباته عليه. فالمحق منهم لا يزلّ عن مذهبه لتمسكه بالبرهان. والمبطل لا يقلع عن باطله لشدة شكيمته في عناده. وفيه إراحة للنبيّ صلى الله عليه وسلم من التطلع إلى هَدْي بعضهم.

فوائد

الأولى: قال الراغب: إن قيل: كيف أعلم بأنهم لا يتبعون قبلته وقد آمن منهم فريق؟ قيل: قال بعضهم: إن هذا حكم على الكل دون الأبعاض، وهذا صحيح، بدلالة أنك لو قلت: ما آمنوا ولكن آمن بعضهم، لم يكن منافياً. وقيل: عنى به أقوام مخصوصون.

الثانية: قال الراغب: في قوله تعالى: { وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ } إشارة إلى أن من عرف الله حق معرفته، فمن المحال أن يرتد. ولذا قيل: ما رجع من رجع إلا من الطريق: أي ما أخل بالإيمان إلا من لم يصل إليه حق الوصول.

إن قيل: فقد يوجد من يحصل له معرفة الله ثم يرتدّ. قيل: إن الذي يقدر أنه معرفة، هو ظن متصور بصورة العلم. فأما أن يحصل له العلم الحقيقيّ ثم يعقبه الارتداد - فبعيد. ولم يعن بهذه المعرفة ما جعله الله تعالى للإنسان بالفطنة. فإن تكل كشررة تخمد إذا لم تتوقد.

الثالثة: قال الإمام ابن القيّم رحمه الله تعالى، في " بدائع الفوائد ": قبلة أهل الكتاب ليست بوحي وتوقيف من الله، بل بمشورة واجتهاد منهم، أما النصارى فلا ريب أن الله لم يأمرهم في الإنجيل ولا في غيره باستقبال المشرق، وهم يقرّون بأن قبلة المسيح قبلة بني إسرائيل، وهي الصخرة، وإنما وضع لهم أشياخهم هذه القبلة، فهم مع اليهود، متفقون على أن الله لم يشرع استقبال بيت المقدس على رسوله أبداً، والمسلمون شاهدون عليهم بذلك الأمر، وأما اليهود فليس في التوراة الأمر باستقبال الصخرة، البتة، وإنما كانوا ينصبون التابوت ويصلّون إليه من حيث خرجوا، فإذا قَدِموا نصبوه على الصخرة وصلوا إليه، فلما رفع صلوا إلى موضعه وهو الصخرة.

وقوله: { وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ } بعد الإفصاح عن حقيقة حاله المعلومة عنده في قوله: { وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ } كلام وارد على سبيل الفرض والتقدير.

السابقالتالي
2