الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

عطف على جملةالذين أتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } البقرة 146، فهو من تمام الاعتراض، أو عطف على جملةولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك } البقرة 145 مع اعتبار ما استؤنف عنه من الجُمل، ذلك أنه بعد أن لُقِّن الرسول - عليه الصلاة والسلام - ما يجيب به عن قولهم { مَا وَلاَّهُم عن قبلتهم } ، وبعد أن بين للمسلمين فضيلة قبلتهم وأنهم على الحق وأَيْأَسَهم من ترقب اعتراف اليهود بصحة استقبال الكعبة، ذيل ذلك بهذا التذييل الجامع لمعان سامية، طَيَّاً لبساط المجادلة مع اليهود في أمر القبلة، كما يقال في المخاطبات «دَعْ هذا» أو «عَدِّ عن هذا»، والمعنى أن لكل فريق اتجاهاً من الفهم والخشية عند طلب الوصول إلى الحق. وهذا الكلام موجه إلى المسلمين أي اتركوا مجادلة أهل الكتاب في أمر القبلة ولا يهمنكم خلافهم فإن خلاف المخالف لا يناكد حق المحق. وفيه صرف للمسلمين بأن يهتموا بالمقاصد ويعتنوا بإصلاح مجتمعهم، وفي معناه قوله تعالىليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر } البقرة 177 الآية، ولذلك أعقبه بقوله { فاستبقوا الخيرات } ، فقوله { أين ما تكونوا } في معنى التعليل للأمر باستباق الخيرات. فهكذا ترتيب الآية على هذا الأسلوب كترتيب الخُطب بذكر مقدِّمة ومقْصَد وبياننٍ لَه وتَعْلِيل وتَذْيِيل. وكل اسم دال على الإحاطة والشمول، وهو مبهم يتعين بما يضاف هو إليه فإذا حذف المضاف إليه عوض عنه تنوين كل وهو التنوين المسمى تنوين العوض لأنه يدل على المضاف إليه فهو عوض عنه. وحذف ما أضيف إليه كل هنا لدلالة المقام عليه وتقدير هذا المحذوف أُمَّة لأن الكلام كله في اختلاف الأمم في أمر القبلة، وهذا المضاف إليه المحذوف يقدر بما يدل عليه الكلام من لفظه كما في قوله تعالىآمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله } البقرة 285 أو يقدر بما يدل عليه معنى الكلام المتقدم دون لفظ تقدمه كما في قوله تعالىولكل جعلنا موالي } النساء 33 في سورة النساء، ومنه ما في هذه الآية لأن الكلام على تخالف اليهود والنصارى والمسلمين في قبلة الصلاة، فالتقدير ولكل من المسلمين واليهود والنصارى وجهة، وقد تقدم نظيره عند قوله تعالىكل له قانتون } البقرة 116. والوجهة حقيقتها البقعة التي يتوجه إليها فهي وزن فِعلة مؤنث فعل الذي هو بمعنى مفعول مثل ذبح، ولكونها اسم مكان لم تحذف الواو التي هي فاء الكلمة عند اقتران الاسم بهاء التأنيث لأن حذف الواو في مثله إنما يكون في فعلة بمعنى المصدر. وتستعار الوجهة لما يهتم به المرء من الأمور تشبيهاً بالمكان الموجه إليه تشبيه معقول بمحسوس، ولفظ { وجهة } في الآية صالح للمعنيين الحقيقي والمجازي فالتعبير به كلام موجه وهو من المحاسن، وقريب منه قوله

السابقالتالي
2 3