الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَٱشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ }

جرَّ خبرُ سليمان عليه السلام إلى ذكر سبأ لما بين مُلك سليمان وبين مملكة سبأ من الاتصال بسبب قصة «بلقيس»، ولأن في حال أهل سبأ مضادة لأحوال داود وسليمان، إذ كان هذان مثلاً في إسباغ النعمة على الشاكرين، وكان أولئك مثلاً لسلب النعمة عن الكافرين، وفيهم موعظة للمشركين إذ كانوا في بحبوحة من النعمة فلما جاءهم رسول من المُنعِم عليهم يذكرهم بربهم ويوقظهم بأنهم خاطئون إذ عبدوا غيره، كذّبوه وأعرضوا عن النظر في دلالة تلك النعمة على المنعِم المتفرد بالإِلٰهية. وقال ابن عطية عند الكلام على قوله تعالىولقد آتينا داود منا فضلاً } سبأ 10 «لمّا فرغ التمثيل لمحمد صلى الله عليه وسلم رجع التمثيل لهم أي للمشركين أي لحالهم بسبإ وما كان من هلاكهم بالكفر والعتوّ» ا هــــ. فهذه القصة تمثيل أمة بأمة، وبلاد بأخرى، وذلك من قياس وعبرِه. وهي فائدة تدوين التاريخ وتقلبات الأمم كما قال تعالىوضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم اللَّه فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون } النحل 112، 113 فسوَق هذه القصة تعريض بأشباه سبأ. والمعنى لقد كان لسبأ في حال مساكنهم ونظام بلادهم آية. والآية هنا الأمارة والدلالة بتبدل الأحوال وتقلب الأزمان، فهي آية على تصرف الله ونعمته عليهم فلم يهتدوا بتلك الآية فأشركوا به، وقد كان في إنعامه عليهم ما هو دليل على وجوده ثم على وحدانيته. والتأكيد بلام القسم وحرف التحقيق لتنزيل المخاطبين بالتعريض بهذه القصة منزلةَ من يتردد في ذلك لعدم اتعاظهم بحال قوم من أهل بلادهم، وتجريد { كان } من تأنيث الفعل لأن اسمها غير حقيقي للتأنيث ولوقوع الفصل بالمجرور. واللام في { لسبأ } متعلق بــــ { آية }. والمساكن البلاد التي يسكنونها بقرينة قوله { جنتان عن يمين وشمال } والمساكن ديار السكنى. وتقدم الكلام على سبأ عند قولهوجئتك من سبأ } في سورة النمل 22. واسم سبأ يطلق على الأمة كما هنا وعلى بلادهم كما في آية النمل وتقدم تفصيله. وقرأ الجمهور { في مساكنهم } بصيغة جمع مسكن. وقرأه حمزة والكسائي وحفص وخلف بلفظ المفرد { في مسكنهم } إلا أن حمزة وحفصاً فتَحَا الكاف، والكسائي وخلف كسرا الكاف وهو خارج عن القياس لأنه مضارع غير مكسور العين فحق اسم المكان منه فتح العين. وشذ نحو قولهم مسجد لبيت الصلاة. و { جنتان } بدل من { آية } باعتبار تكملته بما اتصل به من المتعلق والقول المقدر. و { جنتان } تشبيه بليغ، أي في مساكنهم شبيه جنتين في أنه مغترس أشجاراً ذاتتِ ثمر متصل بعضها ببعض مثل ما يعرف من حال الجنات، وتثنية جنتين باعتبار أن ما على يمين السَّائر كجنة، وما على يسَاره كجنة.

السابقالتالي
2 3