الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ إِنَّمَا ٱسْتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ }

قوله تعالى: { إِنَّمَا ٱسْتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } هذه الجملة هي خبر { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلُوا }. والمراد من تولّى عن المشركين يوم أحُد عن عمر رضي الله عنه وغيره. السُّدَّي: يعني من هرب إلى المدينة في وقت الهزيمة دون من صَعِد الجبل. وقيل: هي في قوم بأعيانهم تخلّفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في وقت هزيمتهم ثلاثة أيام ثم انصرفوا. ومعنى { ٱسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ } استدعى زللهم بأن ذكّرهم خطايا سلفت منهم. فكرهوا الثبوت لئلا يُقتلوا. وهو معنى «ببعض ما كسبوا» وقيل: { ٱستْزَلَّهُمْ } حملهم على الزلل، وهو استفعل من الزلّة وهي الخطيئة. وقيل: زَلّ وأزلَ بمعنى واحد. ثم قيل: كرهوا القتال قبل إخلاص التوبة، فإنما تولَّوا لهذا، وهذا على القول الأوّل. وعلى الثاني بمعصيتهم النبي صلى الله عليه وسلم في تركهم المركز ومَيْلِهم إلى الغنيمة. وقال الحسن: «مَا كَسَبُوا» قَبُولهم من إبليس ما وسوس إليهم. وقال الكلبي: زيّن لهم الشيطان أعمالهم. وقيل: لم يكن الانهزام معصية لأنهم أرادوا التحصّن بالمدينة، فيقطع العدّو طمعه فيهم لمّا سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قُتِل. ويجوز أن يقال: لم يسمعوا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لِلهَوْل الذي كانوا فيه. ويجوز أن يقال: زاد عدد العدّو على الضِّعف لأنهم كانوا سبعمائة والعدوّ ثلاثة ٱلاف. وعند هذا يجوز الانهزام ولكن الانهزام عن النبي صلى الله عليه وسلم خطأٌ لا يجوز، ولعلّهم توهّموا أن النبي صلى الله عليه وسلم انحاز إلى الجبل أيضا. وأحسنها الأول. وعلى الجملة فإن حُمِل الأمر على ذنب مُحَقَّق فقد عفا الله عنه، وإن حُمِل على انهزام مُسَوّغ فالآية فيمن أبْعَد في الهزيمة وزاد على القدر المسوّغ. وذكر أبو الليث السَّمَرْقنِدي نصر بن محمد بن إبراهيم قال: حدّثنا الخليل بن أحمد قال: حدّثنا السراج قال حدّثنا قتيبة قال: حدّثنا أبو بكر بن غَيْلان عن جرير: أن عثمان كان بينه وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال له عبد الرحمن بن عوف: أَتَسُبَّني وقد شهدتُ بَدْراً ولم تشهَد، وقد بايعتُ تحت الشجرة ولم تبايع، وقد كنتَ تُوَلَّى مع من تَولَّى يوم الجَمْع، يعني يوم أُحَد. فردّ عليه عثمان فقال: أما قولك: أنا شهدتُ بدرا ولم تشهد، فإني لم أَغِب عن شيء شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مريضةً وكنت معها أُمَرِّضها، فضرب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم سهما في سهام المسلمين، وأما بيعة الشّجرة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني رَبيئَة على المشركين بمكة ـ الرّبيئَةُ هو الناظر ـ فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه على شماله فقال: «هذه لعثمان» فيمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وشماله خير لي من يميني وشمالي.

السابقالتالي
2