الرئيسية - التفاسير


* تفسير الميزان في تفسير القرآن/ الطبطبائي (ت 1401 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلْكِتَابِ أُولَـٰئِكَ يَلعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ ٱللاَّعِنُونَ } * { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } * { إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ ٱللَّهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } * { خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ٱلْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ }

بيان قوله تعالى { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنات والهدى } ، الظاهر - والله أعلم - أن المراد بالهدى ما تضمنه الدين الإِلهي من المعارف والأحكام الذي يهدي تابعيه إلى السعادة، وبالبينات الآيات والحجج التي هي بيّنات وأدلة وشواهد على الحق الذي هو الهدى، فالبيّنات في كلامه تعالى وصف خاصّ بالآيات النازلة، وعلى هذا يكون المراد بالكتمان - وهو الإِخفاء - أعم من كتمان أصل الآية، وعدم إظهاره للناس، أو كتمان دلالته بالتأويل أو صرف الدلالة بالتوجيه، كما كانت اليهود تصنع ببشارات النبوة ذلك فما يجهله الناس لا يظهرونه لهم، وما يعلم به الناس يؤوّلونه بصرفه عنه صلى الله عليه وآله وسلم. قوله تعالى { من بعد ما بيّناه للناس } ، أفاد أن كتمانهم إنما هو بعد البيان والتبين للناس، لا لهم فقط، وذلك أن التبين لكل شخص شخص من أشخاص الناس أمر لا يحتمله النظام الموجود المعهود في هذا العالم، لا في الوحي فقط، بل في كل إعلام عمومي وتبيين مطلق، بل إنما يكون باتصال الخبر إلى بعض الناس من غير واسطة وإلى بعض آخرين بواسطتهم، بتبليغ الحاضر الغائب، والعالم الجاهل، فالعالم يعد من وسائط البلوغ وأدواته، كاللسان والكلام فإذا بيّن الخبر للعالم المأخوذ عليه الميثاق بعلمه مع غيره من المشافهين فقد بيّن الناس، فكتمان العالم علمه هذا كتمان العلم عن الناس بعد البيان لهم وهو السبب الوحيد الذي عده الله سبحانه سبباً لاختلاف الناس في الدين وتفرقهم في سبل الهداية والضلالة، وإلاَّ فالدين فطري تقبله الفطرة وتخضع له القوة المميزة بعد ما بين لها، قال تعالىفأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } الروم 30، فالدين فطري على الخلقة لا يدفعه الفطرة أبداً لو ظهر لها ظهوراً ما بالصفاء من القلب، كما في الأنبياء، أو ببيان قولي، ولا محالة ينتهي هذا الثاني إلى ذلك الأول فافهم ذلك. ولذلك جمع في الآية بين كون الدين فطرياً على الخلقة وبين عدم العلم به فقال { فطرة الله التي فطر الناس عليها } ، وقال لكن أكثر الناس لا يعلمون، وقال تعالىوأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلاَّ الذين أُوتوه من بعد ما جاءتهم البيّنات بغياً بينهم } البقرة 213، فأفاد أن الاختلاف فيما يشتمل عليه الكتاب إنما هو ناشىء عن بغي العلماء الحاملين له، فالاختلافات الدينية والانحراف عن جادة الصواب معلول بغي العلماء بالإِخفاء والتأويل والتحريف وظلمهم، حتى أن الله عرف الظلم بذلك يوم القيامة كما قالفأذّن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً }

السابقالتالي
2 3 4