الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقِّ وَلاَ يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ ٱلأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } * { ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يُحْيِـي ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }

قوله تعالى: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ } أي يقرب ويحين، قال الشاعر:
أَلَمْ يَأَنِ ليِ يَا قَلْبُ أَنْ أَتْركَ الْجَهْلاَ   وأن يُحْدِثَ الشَّيبُ المبينُ لنا عَقْلاَ
وماضيه أَنَى بالقصر يَأنى. ويقال: آن لك ـ بالمد ـ أن تفعل كذا يَئِين أَيْناً أي حان، مثل أَنَى لك وهو مقلوب منه. وأنشد ٱبن السِّكيت:
أَلَمَّا يئِنْ ليِ أَنْ تَجَلَّى عَمَايَتيِ   وأَقْصُرُ عن لَيْلَى بَلَى قَدْ أَنَى لِيَا
فجمع بين اللغتين، وقرأ الحسن «أَلَمَّا يَأْنِ» وأصلها «أَلَمْ» زيدت «ما» فهي نفي لقول القائل: قد كان كذا و «لم» نفي لقوله: كان كذا. وفي صحيح مسلم عن ٱبن مسعود قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ } إلا أربع سنين. قال الخليل: العتاب مخاطبة الإِدلال ومذاكرة المَوْجِدة تقول عاتبته معاتبة { أَن تَخْشَعَ } أي تذل وتلين { قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقِّ } " روي أن المزاح والضحِك كثر في أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم لما ترفَّهوا بالمدينة، فنزلت الآية ولما نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم:«إن الله يستبطئكم بالخشوع» فقالوا عند ذلك: خَشَعنا " وقال ابن عباس: إن الله ٱستبطأ قلوب المؤمنين، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن. وقيل: نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة. وذلك أنهم سألوا سلمان أن يحدثهم بعجائب التوراة فنزلت:الۤر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } [يوسف: 1-2] إلى قوله:نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ } [يوسف:3] الآية فأخبرهم أن هذا القصص أحسن من غيره وأنفع لهم، فكفّوا عن سلمان، ثم سألوه مثل الأول فنزلت: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقِّ } فعلى هذا التأويل يكون الذين آمنوا في العلانية باللسان. قال السديّ وغيره: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ } بالظاهر وأسرّوا الكفر { أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ }. وقيل: نزلت في المؤمنين. قال سعد: قيل يا رسول الله لو قصصت علينا فنزل: { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ } فقالوا بعد زمان: لو حدثتنا فنزل:ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ } [الزمر:23] فقالوا بعد مدة: لو ذكرتنا فأنزل الله تعالى: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقِّ } ونحوه عن ابن مسعود قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين، فجعل ينظر بعضنا إلى بعض ويقول: ما أحدثنا؟ قال الحسن: ٱستبطأهم وهم أحبّ خلقه إليه. وقيل: هذا الخطاب لمن آمن بموسى وعيسى دون محمد عليهم السلام لأنه قال عقيب هذا: «وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ» أي ألم يأن للذين آمنوا بالتوراة والإنجيل أن تلين قلوبهم للقرآن، وألا يكونوا كمتقدمي قوم موسى وعيسى إذ طال عليهم الأمد بينهم وبين نبيِّهم فقست قلوبهم.

السابقالتالي
2 3