الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ }

هذا تفصيل لبعض الخلق الأول بذكر خلق الإنسان وهو أهم في هذا المقام للتنبيه على أنه المراد من الخلق الأول وليبنَى عليه { ونعلم ما توسوس به نفسه } الذي هو تتميم لإحاطة صفة العلم في قولهقد علمنا ما تنقص الأرض منهم } ق 4 ولينتقل منه الإنذار بإحصاء أعمال الناس عليها وهو ما استُرسل في وصفه من قولهإذ يتلقى المتلقيان } ق 17 الخ. ووصف البعث وصف الجزاء من قولهونفخ في الصور } ق 20 إلى قولهولدينا مزيد } ق 35. وتأكيد هذا الخبر باللام وقد مراعًى فيه المتعاطفات وهي { نعلم ما توسوس به نفسه } لأنهم وإن كانوا يعلمون أن الله خلق الناس فإنهم لا يعلمون أن الله عالم بأحوالهم. و { الإنسان } يعم جميع الناس ولكن المقصود منهم أولاً المشركون لأنهم المسوق إليهم هذا الخبر، وهو تعريض بالإنذار كما يدل عليه قوله بعدهذلك ما كنت منه تحيد } ق 19 وقولهلقد كنت في غفلة من هذا } ق 22 وقولهذلك يوم الوعيد } ق 20. والبَاء في قوله { به } زائدة لتأكيد اللصوق، والضمير عائد الصلة كأنه قيل ما تتكلمه نفسه على طريقةوامسحوا برؤوسكم } المائدة 6. وفائدة الإخبار بأن الله يعلم ما توسوس به نفس كل إنسان التنبيه عل سعة علم الله تعالى بأحوالهم كلها فإذا كان يعلم حديث النفس فلا عجب أن يعلم ما تنقص الأرض منهم. والإخبار عن فعل الخلق بصيغة المضيّ ظاهر، وأما الإخبار عن علم ما توسوس به النفس بصيغة المضارع فللدلالة على أن تعلق علمه تعالى بالوسوسة متجدد غير منقض ولا محدود لإثبات عموم علم الله تعالى، والكناية عن التحذير من إضمار ما لا يرضي الله. وجملة { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } في موضع الحال من ضمير { ونعلم }. والمقصود منها تأكيد عاملها وتحقيق استمرار العلم بباطن الإنسان، ومعنى { توسوس } تتكلم كلاماً خفياً همساً. ومصدره الوسواس والوسوسة أطلقت هنا مجازاً على ما يجول في النفس من الخواطر والتقديرات والعزائم لأن الوسوسة أقرب شيء تشبه به تلك الخواطر وأحسن ما يستعار لها لأنها تجمع مختلف أحوال ما يجول في العقل من التقادير وما عداها من نحو ألفاظ التوهم والتفكر إنما يدل على بعض أحوال الخواطر دون بعض. والحبل هنا واحد حِبال الجسم. وهي العروق الغليظة المعروفة في الطبّ بالشرايين، واحدها شَرْيان بفتح الشين المهملة وتكسر وبسكون الراء وتعرف بالعروق الضوارب ومنبتها من التجْويف الأيسر من تجويفي القلب. وللشرايين عمل كثير في حياة الجسم لأنها التي توصل الدم من القلب إلى أهم الأعضاء الرئيسية مثل الرئة والدماغ والنخاع والكليتين والمعدة والأمعاء. وللشرايين أسماء باعتبار مصابِّها من الأعضاء الرئيسية. والوريد واحد من الشرايين وهو ثاني شريانين يخرجان من التجويف الأيسر من القلب.

السابقالتالي
2