الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ وَٱلْكِتَابِ وَٱلنَّبِيِّينَ وَآتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلاةَ وَآتَى ٱلزَّكَاةَ وَٱلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَٱلصَّابِرِينَ فِي ٱلْبَأْسَآءِ وٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلْبَأْسِ أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ }

قوله تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ }: قرأ الجمهور برفع " البر " ، وحمزة وحَفْص عن عاصم بنصبه. فقراءةٌ الجمهور على أنه اسمُ " ليس " ، و " أن تُوَلُّوا " خبرها في تأويلِ مصدرٍ، أي: ليس البرُّ توليتكم. ورُجِّحَتْ هذه القراءةُ من حيث إنه ولي الفعلُ مرفوعَه قبل منصوبِه. وأمّا قراءةُ حمزةَ وحفص فالبرَّ خبرٌ مقدَّمٌ، و " أن تُوَلُّوا " اسمها في تأويلِ مصدرٍ. ورُجِّحَتْ هذه القراءةُ بأنّ المصدر المؤولَ أَعْرَفُ من المُحَلّى بالألفِ واللام، لأنه يُشْبِهُ الضميرَ من حيث إنه لا يُوصَف ولا يُوْصَفُ به، والأعرافُ ينبغي أن يُجْعَلَ الاسمَ، وغيرُ الاعرفِ الخبرَ. وتقديمُ خبرِ ليس على اسمِها قليلٌ حتى زَعَم مَنْعَه جماعةٌ، منهم ابن دَرَسْتَوَيْه قال: لأنها تُشْبه " ما " الحجازية، ولأنها حرفٌ على قولِ جماعةٍ، ولكنه محجوجٌ بهذه القراءة المتواترةٍ وبقول الشاعر:
823 ـ سَلِي إْن جَهِلْتِ الناسَ عَنَّا وعنهم   وليس سواءً عالِمٌ وجَهُولُ
وقال آخر:
824 ـ أليسَ عظيماً أَنْ تُلِمَّ مُلِمَّةٌ   وليس علينا في الخُطوبِ مُعَوَّلُ
وفي مصحفِ أُبَيّ وعبد الله: " بأن تُوَلُّوا " بزيادةِ الباءِ وهي واضحةٌ، فإنَّ الباءَ تُزاد في خبرِ " ليس " كثيراً.

وقوله: { قِبَلَ } منصوبٌ على الظرفِ المكاني بقوله " تُوَلُّوا " ، وحقيقةُ قولك: " زيدٌ قِبَلك ": أي في المكانِ الذي قبلك فيه، وقد يُتَسَّع فيه فيكونُ بمعنى " عند " نحو: " قِبَل زيدٍ دَيْنٌ " أي: عندَه دَيْنٌ.

قوله: { وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ } في هذهِ الآيةِ خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّ " البِرَّ " اسمُ فاعلٍ من بَرَّ يَبَرُّ فهو بِرٌّ، والأصلُ: بَرِرٌ بكسرِ الراءِ الأولى بزنة " فَطِن " ، فلما أُريد الإِدغام نُقِلَتْ كسرةُ الراءِ إلى الباءِ بعد سَلْبِها حركتَها، فعلى هذه القراءةِ لا يَحتاج الكلامُ إلى حَذْفٍ وتأويلٍ لأنَّ البِرَّ من صفاتِ الأعيان، كأنه قيل: ولكن الشخصَ البِرِّ مَنْ آمن. الثاني: أنَّ في الكلامِ حذفَ مضافٍ من الأولِ تقديرُه: " ولكنَّ ذا البِرَّ مَنْ آمن ". الثالث: أن يكونَ الحذفُ من الثاني، أي: ولكن البِرَّ بِرُّ مَنْ آمن، وهذا تخريجُ سيبويه واختيارُه، وإنما اختارَه لأنَّ السابق إنما هو نفيُ كونِ البر هو تَوْلِيَةُ الوجهِ قِبَل المشرقِ والمغربِ، فالذي يُسْتَدْرك إنما هو من جنس ما يُنْفَى، ونظيرُ ذلك: " ليس الكرمُ أن تَبْذُلَ درهماً ولكن الكرمَ بَذْلُ الآلاف " ولا يناسِبُ " ولكن الكريم مَنْ يبذُلُ الآلاف ". الرابع: أن يُطْلَقَ المصدرُ على الشخصِ مبالغةً نحو: " رجلٌ عَدْلٌ ". ويُحكى عن المبردِ: " لو كنتُ مِمَّن يقرأُ لقرأتُ: " ولكنَّ البَرَّ " بفتح الباء وإنما قال ذلك لأن " البَرَّ " اسم فاعل تقول: بَرَّ يبَرُّ فهو بارٌّ وبَرٌّ، فتارةً تأتي به على فاعِل وتارة على فَعِل.

السابقالتالي
2 3 4