الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْكَاذِبُونَ }

هذا متصل بقولهويحلفون على الكذب } المجادلة 14 إلى قولهاتخذوا أيمانهم جنة } المجادلة 16 وتقدم الكلام على نظير قولهيوم يبعثهم الله جميعاً فينبئهم بما عملوا } المجادلة 6. كما سبق آنفاً في هذه السورة، أي اذكر يوم يبعثهم الله. وحلفهم لله في الآخرة إشارة إلى ما حكاه الله عنهم في قولهثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين } الأنعام 23. والتشبيه في قوله { كما يحلفون لكم } في صفة الحلف، وهي قولهم إنهم غير مشركين، وفي كونه حلفاً على الكذب، وهم يعلمون، ولذلك سماه تعالى فتنة في آية الأنعام 23 بقوله تعالىثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين } ومعنى ويحسبون أنهم على شيء } يظنون يومئذٍ أن حلفهم يفيدهم تصديقَهم عند الله فيحسبون أنهم حصّلوا شيئاً عظيماً، أي نافعاً. و { على } للاستعلاء المجازي وهو شدة التلبس بالوصف ونحوِه كقولهأولئك على هدى من ربهم } في سورة البقرة 5. وحذفت صفة { شيء } لظهور معناها من المقام، أي على شيء نافع، كقوله تعالىقل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل } المائدة 68. وقول النبي صلى الله عليه وسلم لَمّا سُئِل عن الكُهّان «ليسوا بشيء». وهذا يقتضي توغّلَهم في النفاق ومرونتهم عليه وأنه باقٍ في أرواحهم بعد بعثهم لأن نفوسهم خرجت من عالم الدنيا متخلّقة به، فإن النفوس إنما تكتسب تزكية أو خبثاً في عالم التكليف. وحكمة إيجاد النفوس في الدنيا هي تزكيتها وتصفية أكدارها لتخلص إلى عالم الخلود طاهرة، فإن هي سلكت مسلك التزكية تخلصت إلى عالم الخلود زكية ويزيدها الله زكاء وارتياضاً يوم البعث. وإن انغمست مدة الحياة في حمأة النقائص وصلصال الرذائل جاءت يوم القيامة على ما كانت عليه تشويهاً لحالها لتكون مهزلة لأهل المحشر. وقد تبقى في النفوس الزكية خَلائق لا تنافي الفضيلة ولا تناقض عالم الحقيقة مثل الشهوات المباحة ولقاء الأحبة قال تعالىالأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين يا عبادِ لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تُحبَرون } الزخرف 67 ـــ 70. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن رجلاً من أهل الجنة يستأذن ربه أن يزرع، فيقول الله أو لستَ فيما شئتَ قال بلى ولكن أحب أن أزرع، فأسْرع وبذر فيبادر الطرفَ نباتُه واستواؤه واستحصاده وتكويره أمثالَ الجبال. وكان رجل من أهل البادية عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله لا نجد هذا إلا قرشياً أو أنصارياً فإنهم أصحاب زَرع فأما نحن فلسنا بأصحاب زرع، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم إقراراً لما فهمه الأعرابي "

السابقالتالي
2