الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَللَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }

فيه أربع مسائل: الأولىٰ: قوله تعالىٰ: { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ } «الذين» في موضع رفع، والمفعول الأوّل محذوف. قال الخليل وسيبويه والفَرّاء: المعنى البخل خيراً لهم، أي لا يحسبَنّ الباخلون البخلَ خيراً لهم. وإنما حذف لدلالة يبخلون على البخل وهو كقوله: من صدق كان خيراً له. أي كان الصدق خيراً له. ومن هذا قول الشاعر:
إذا نُهِيَ السّفِيه جَرَى إليه   وخالَفَ والسَّفِيهُ إلى خِلافِ
فالمعنى: جَرَىٰ إلى السَّفه فالسّفيه دلّ على السَّفه. وأما قراءة حمزة بالتاء فبعيدة جدّاً قاله النحاس. وجوازها أن يكون التقدير: لا تحسبن بخل الذين يبخلون هو خيراً لهم. قال الزجاج: وهي مثل { وَٱسْأَلِ الْقَرْيَةَ }. و «هو» في قوله { هُوَ خَيْراً لَّهُمْ } فاصلة عند البصريين، وهي العماد عند الكوفيين. قال النحاس: ويجوز في العربية «هو خير لهم» ابتداء وخبر. الثانية: قوله تعالىٰ: { بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ } ابتداء وخبر، أي البخل شرّ لهم. والسين في «سَيُطَوَّقُونَ» سين الوعيد، أي سوف يُطَوَّقُون قاله المبرّد. وهذه الآية نزلت في البخل بالمال والإنفاق في سبيل الله، وأداء الزكاة المفروضة. وهذه كقوله: { وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } الآية. ذهب إلى هذا جماعةٌ من المتأوّلين، منهم ابن مسعود وابن عباس وأبو وائل وأبو مالك والسّدِّي والشَّعْبِيّ قالوا: ومعنى { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ } هو الذي ورد في الحديث عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " «من آتاه الله مالاً فلم يُؤَدّ زكاته مُثِّل له يوم القيامة شُجاعاً أقْرَعَ له زَبِيبتان يُطَوّقه يوم القيامة ثم يأخذ بِلهزمتيه ثم يقول أنا مالُك أنا كنزك ـ ثم تلا هذه الآية ـ { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ } الآية " أخرجه النسائي. وخرّجه ابن ماجه " عن ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما مِن أحدٍ لا يُؤدِّي زكاةَ مالِهِ إِلاَّ مُثِّل له يومَ القيامة شُجاع أقْرَعُ حتى يُطَوَّقَ به في عنقه» ثم قرأ علينا النبيّ صلى الله عليه وسلم مِصداقه من كتاب الله تعالى: { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } الآية " وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال " ما من ذي رَحِمٍ يأتي ذَا رَحِمه فيسأله من فضل ما عنده فيبخل به عليه إلاَّ أخرج له يوم القيامة شُجاعٌ من النار يتلمظّ حتى يُطَوِّقه " وقال ابن عباس أيضاً: إنما نزلت في أهل الكتاب وبخلهم ببيان ما علموه من أمر محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ذلك مُجاهد وجماعة من أهل العلم. ومعنى { سَيُطَوَّقُونَ } على هذا التأويل سيحملون عقاب ما بخلوا به فهو من الطاقة كما قال تعالىٰ:وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ }

السابقالتالي
2 3