الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ وٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكَٰفِرِينَ }

قولُه تعالى: { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ }: في " أو " خمسة أقوال، أظهرهُا: أنها للتفصيلِ بمعنى أنَّ الناظرينَ في حالِ هؤلاء منهم مَنْ يُشَبِّهُهُمْ بحال المستوقدِ الذي هذه صفتُهُ، ومنهم مَنْ يُشَبِّهُهُمْ بأصحاب صَيِّبٍ هذه صفتُه. الثاني: أنها للإِبهام، أي: إن الله أَبْهَم على عباده تشبيهَهم بهؤلاء أو بهؤلاء، الثالث: أنها للشَّكِّ، بمعنى أن الناظر يَشُكُّ في تشبيههم. الرابع: أنها للإِباحة. الخامس: أنها للتخيير، أي: أًُبيح للناس أن يشبِّهوهم بكذا أو بكذا، وخُيِّروا في ذلك. وزاد الكوفيون فيها معنيين آخرين، أحدُهما: كونُها بمعنى الواو, وأنشدوا:
225ـ جاء الخلافةَ أو كانَتْ له قَدَراً   كما أتى ربَّه موسى على قَدَرِ
والثاني: كونُها بمعنى بل، وأنشدوا:
226ـ بَدَتْ مثلَ قَرْن الشمسِ في رَوْنَقِ الضُّحَى   وصورتِها أَوْ أَنْتَ في العينِ أَمْلَحُ
أي: بل أنت.

و " كصيبٍ " معطوفٌ على " كَمَثَل " ، فهو في محلِّ رفع، ولا بُدَّ من حذف مضافَيْنِ، ليصِحَّ المعنى، التقدير: أو كمثل ذَوي صَيِّب، ولذلك رَجَعَ عليه ضميرُ الجمع في قوله: { يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم } لأنَّ المعنى على تشبيهِهم بأصحاب الصيِّب لا بالصيِّب نفسِه. والصيِّبُ: المطر: سُمِّي بذلك لنزولِهِ، يقال: صابَ يصُوبُ إذا نَزَلَ، قال:
227ـ فلسْتُ لإِنسِيٍّ ولكن لِمَلأَكٍ   تَنَزَّلَ من جوِّ السماءِ يَصُوبُ
وقال آخر:
228ـ فلا تَعْدِلي بيني وبينَ مُغَمَّرٍ   سَقَتْكِ رَوايا المُزْنِ حيثُ تَصُوبُ
واختُلف في وزن صَيِّب: فمذهبُ البصريين أنه " فَيْعِل " ، والأصلُ: صَيْوبٍ فَأُدْغِمَ كميِّت وهيِّن والأصلُ: مَيْوِت وهَيْوِن. وقال بعض الكوفيين: وزنه فَعِيل، والأصل " صَويب بزنة طَويل، قال النحاس: " وهذا خطأٌ لأنه كانَ ينبغي أن يَصِحَّ ولا يُعَلَّ كطويل " وكذا قال أبو البقاء. وقيل وزنه: فَعْيِل فقُلِب وأُدْغِم.

واعلم أنه إذا قيل بأن الجملةَ من قوله: { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } استئنافيةٌ ومن قوله { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } أنها من وصف المنافقين كانتا/ جملتي اعتراضٍ بين المتعاطفَين، أعني قوله: كمثل وكصيّب، وهي مسألةُ خلاف منعها الفارسي وقد رُدَّ عليه بقول الشاعر:
229ـ لَعَمْرُكَ والخُطوبُ مُغَيِّراتٌ   وفي طولِ المُعَاشَرَةِ التَّقالي
لقد بالَيْتُ مَظْعَنَ أمِّ أَوْفَى   ولكنْ أمُّ أَوفَى لا تُبالي
فَفَصَلَ بين القسمِ وهو قولُهُ: " لَعَمْرُك " وبين جوابِهِ وهو قولُهُ: " لقد بالَيْت " بجملتين، إحداهما: " والخطوبُ مغيِّرات " والثانيةُ: " وفي طولِ المعاشرةِ التقالي " [قولُه:] " مِن السماءِ " يَحْتمل وجهينِ، أحدُهما أَن يكونَ متعلقاً بـ " صَيِّب " لأنه يعملُ عملَ الفعلِ، التقديرُ: كمطرٍ يصوبُ من السماء، و " مِنْ " لابتداء الغاية. والثاني: أن يكونَ في محلِّ جر صفةً لصيِّب، فيتعلَّقَ بمحذوف، وتكونُ " مِنْ " للتبعيض، ولا بُدَّ حينئذٍ من حذفِ مضافٍ، تقديرهُ: كصيِّب كائنٍ من أمطارِ السماءِ.

السابقالتالي
2 3 4