الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ لَكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ }

قوله تعالى: { لَكِنِ ٱلَّذِينَ }: قرأ الجمهورُ بتخفيفِها، وأبو جعفر بتشديدِها، فعلى القراءةِ الأولى: الموصولُ رفعٌ بالابتداء، وعند يونس يجوز إعمالُ المخففة، وعلى الثانية في محل نصب. ووقعت " لكن " هنا أحسنَ موقع، فإنَّها وقعت بين ضدين: وذلك أن معنى الجملتين التي قبلها والتي بعدها آيلٌ إلى تعذيبِ الكفار وتنعيمِ المتقين، ووجهُ الاستدراك أنَّه لَمَّا وَصَفَ الكفارَ بقلةِ نفعِ تَقَلُّبهم في التجارة وتصرُّفهم في البلادِ لأجلها جازَ أن يَتَوَّهَّمَ متوهِّمٌ أن التجارة من حيث هي متصفةٌ بذلك فاستدرك أن المتقين وإن أخذوا في التجارة لا يَضُرُّهم ذلك وأنَّ لهم ما وعدهم به.

قوله: { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } هذه الجملة أجاز مكي فيها وجهين، أحدهما: الرفع على النعت لـ " جنات ". والثاني: النصب على الحالِ من الضمير المُسْتكنِّ في " لهم " قال: " وإنْ شِئْتَ في موضع نصب على الحال من الضمير المرفوع في " لهم "؛ إذ هو كالفعل المتأخر بعد الفاعل إنْ رَفَعْتَ " جنات " بالابتداء، فإنْ رَفَعْتَها بالاستقرار لم يكن في " لهم " ضميرٌ مرفوع إذ هو كالفعل المتقدم ". يعني أن " جنات " يجوز رفعُها من وجهين، أحدُهما: الابتداءُ والجارُّ قبلها خبرها والجملةُ خبر " الذين اتقوا ". والثاني: بالفاعليةِ لأنَّ الجارَّ قبلَها اعتمد بكونِه خبراً للذين اتقوا، وقد تقدَّم أنَّ هذه أَوْلى لقربِه من المفرد، فإنْ جَعَلْنا رفعَها بالابتداءِ جاز في { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } وجهان: الرفعُ على النعت والنصبُ على الحالِ من الضمير المرفوعِ في " لهم " لِتحمُّلِه حينئذ ضميراً، وإنْ جَعَلْنا رفعَها بالفاعليِةِ تعيَّن أن تكونَ الجملةُ بعدَها في موضعِ رفعٍ نعتاً لها، ولا يجوزُ النصبُ على الحال؛ لأنَّ " لهم " ليس فيه حينئذ ضميرٌ لرفعِه الظاهرَ. و " خالدين " نصبٌ على الحالِ من الضميرِ في " لهم " ، والعاملُ فيه معنى الاستقرار.

قوله: " نُزُلاً " النُّزْلُ: ما يُهيَّأ للنزيل وهو الضيف. قال أبو الشعراء الضبي:
1522ـ وكنا إذا الجبارُ بالجيشِ ضافَنا     جَعَلْنا القَنا والمُرْهَفاتِ له نُزْلا
هذا أصلُه ثم اتُّسع فيه فأطلق على الرزق والغذاء، وإنْ لم يكن لضيف، ومنه:فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ } [الواقعة: 93] وفيه قولان: هل هو مصدر أو جمع نازل، نحو قول الأعشى:
1523ـ.........................     أو تَنْزِلون فإنَّا مَعْشَرٌ نُزُلُ
إذا عَرَفْتَ هذا ففي نصبه ستةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه منصوب على المصدر المؤكِّد؛ لأنَّ معنى " لهم جنات " نُنْزلُهم جناتٍ نُزُلاً. وقَدَّره الزمخشري بقوله: " رزقاً وعطاءً من عند الله ". الثاني: نصبُه بفعل مضمر أي: جَعَلهم لهم نُزُلاً. الثالث: نصبُه على الحال من " جنات " لأنها تخصصت بالوصف.

السابقالتالي
2 3