الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

استشكل الناس مجي " ثُمَّ " هنا؛ من حيث إنَّ الإفاضة الثانية هي الإفاضة الأولى؛ لأنَّ قريشاً كانت تقف بمزدلفة، وسائر الناس بعرفة، فأمروا أن يفيضوا من عرفة كسائر الناس، فكيف يجاء بـ " ثُمَّ " التي تقتضي الترتيب والتراخي؟ والجواب من وجوهٍ:

أحدها: أنَّ الترتيب في الذِّكر، لا في الزمان الواقع فيه الأفعال، وحسَّن ذلك؛ أن الإفاضة الأولى غير مأمور بها، إنما المأمور به ذكر الله، إذا فعلت الإفاضة.

ثانيها: أن تكون هذه الجملة معطوفةً على قوله:وَٱتَّقُونِ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } [البقرة: 197] ففي الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ، وهو بعيدٌ.

ثالثها: أن تكون " ثُمَّ " بمعنى الواو، قال بعض النُّحَاةِ: فهي لعطف كلامٍ منقطع من الأول.

قال بعضهم: وهي نظير قوله تعالى:وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ } [البلد: 12،13] إلى قوله:ثُّمَّ كّانَ } [البلد: 17]، أي: كان مع هذا من المؤمنين، وفائدة " ثُمَّ " ههنا: تأخُّر أحد الخبرين عن الآخر، لا تأخّر المخبر عنه [عن ذلك المخبر عنه].

رابعها: أن الإفاضة الثانية هي من جمع إلى منى، والمخاطبون بها جميع الناس، قاله الضَّحَّاك، ورجَّحه الطبريُّ، وهو الذي يقتضيه ظاهر القرآن، فتكون " ثُمَّ " على بابها، قال الزمخشريُّ: " فإنْ قلتَ: كيف موقعُ " ثُمَّ "؟ قلتُ: نحو موقِعها في قولك: أَحْسِنْ إلَى النَّاسِ، ثُمَّ لاَ تُحْسِنْ إلَى غَيْرِ كَريمٍ " تأتي بـ " ثُمَّ "؛ لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم، والإحسان إلى غيره، وبُعد ما بينهما، فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من عرفات، قال: { ثُمَّ أَفِيضُواْ } لتفاوت ما بين الإفاضتين، وأنَّ إحداهما صواب والثانية خطأ " قال أبو حيَّان: " وليستِ الآية نظيرَ المثال الذي مَثَّلَهُ، وخاصل ما ذكر أن " ثُمَّ " تسلب الترتيب، وأنَّ لها معنى غيره سمَّاه بالتفاوت، والبعد لما بعدها عمَّا قبلها، ولم يذكر في الآية إفاضة الخطأ حتَّى تجيء " ثُمَّ " لتفاوت ما بينهما، ولا نعلم أحداً سبقه إلى إثبات هذا المعنى لـ " ثُمَّ " قال شهاب الدين - رحمه الله تعالى -: وهذا الذي ناقش الزمخشريَّ به تحاملٌ عليه، فإنه يعني بالتفاوت والبعد التراخي الواقع بين الرتبتين، وسيأتي له نظائر، وبمثل هذه الأشياء لا يردُّ بها على مثل هذا الرجل.

و " مِنْ حَيْثُ " متعلِّقٌ بـ " أَفِيضُوا " ، و " مِنْ " لابتداء الغاية، و " حَيْثُ " هنا على بابها من كونها ظرف مكانٍ، وقال القفَّال: " هي هنا لزمان الإفاضة " وقد تقدَّم أن هذا قول الأخفش، وتقدَّم دليله، وكأن القفال رام بذلك التغاير بين الإفاضتين؛ ليقع الجواب عن مجيء " ثُم " هنا، ولا يفيد ذلك؛ لأن الزَّمان يستلزم مكان الفعل الواقع فيه.

السابقالتالي
2 3