الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَلاَ ٱلْهَدْيَ وَلاَ ٱلْقَلاۤئِدَ وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ }

فيه ثلاث عشرة مسئلة: الأُولى ـ قوله تعالى: { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ } خطاب للمؤمنين حقّاً أي لا تَتَعدَّوا حدود الله في أمر من الأُمور. والشّعائر جمع شَعيرة على وزن فَعِيلة. وقال ٱبن فارس: ويقال للواحدة شِعَارة وهو أحسن. والشعيرة البَدَنة تُهدى، وإشعارها أن يُجَزّ سَنامها حتى يسيل منه الدّم فيعلم أنها هَديٌ. والإشعار الإعلام من طريق الإحساس يقال: أشعر هَدْيه أي جعل له علامة ليُعرف أنه هَدْيٌ ومنه المشاعر المعالم، واحدها مَشعر وهي المواضع التي قد أُشعِرت بالعلامات. ومنه الشّعر لأنه يكون بحيث يقع الشّعور ومنه الشّاعر لأنه يشعر بفطنته لما لا يفطن له غيره ومنه الشّعير لشَعرته التي في رأسه فالشّعائر على قولٍ ما أُشعر من الحيوانات لتُهْدى إلى بيت الله، وعلى قولٍ جميع مناسك الحجّ قاله ٱبن عباس. وقال مجاهد: الصّفا والمَرْوة والهَديُ والبُدْن كل ذلك من الشعائر. وقال الشاعر:
نُقَتِّلهم جِيلاً فجِيلاً تراهُمُ   شَعَائِرَ قُرْبَانٍ بها يُتَقَرَّبُ
وكان المشركون يَحجّون ويَعتمرون ويُهدون فأراد المسلمون أن يُغيروا عليهم فأنزل الله تعالى: { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ }. وقال عطاء بن أبي ربَاح: شعائر الله جميع ما أمر الله به ونهى عنه. وقال الحسن: دين الله كله كقوله:ذٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ } [الحج: 32] أي دين الله. قلت: وهذا القول هو الراجح الذي يقدّم على غيره لعمومه. وقد اختلف العلماء في إشعار الهَدْي وهي: الثانية ـ فأجازه الجمهور ثم ٱختلفوا في أي جهة يُشعَر فقال الشافعي وأحمد وأبو ثَوْر: يكون في الجانب الأيمن ورُوي عن ٱبن عمر. وثبت عن ابن عباس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أشعر ناقته في صفحة سنامها الأيمن أخرجه مسلم وغيره وهو الصحيح. ورُوي أنه أشعر بُدْنه من الجانب الأيسر قال أبو عمر بن عبد البرّ: هذا عندي حديث منكر من حديث ٱبن عباس والصحيح حديث مسلم عن ٱبن عباس، قال: ولا يصح عنه غيره. وصفحة السَّنام جانبه، والسَّنام أعلى الظهر. وقالت طائفة: يكون في الجانب الأيسر وهو قول مالك، وقال: لا بأس به في الجانب الأيمن. وقال مجاهد: من أيّ الجانبين شاء وبه قال أحمد فى أحد قوليه. ومنع من هذا كلّه أبو حنيفة وقال: إنه تعذيب للحيوان، والحديث يردّ عليه وأيضاً فذلك يجري مجرى الوَسْم الذي يُعرف به المِلْك كما تقدّم وقد أوْغَل ٱبن العربي على أبي حنيفة في الردّ وٱلإنكار حين لم ير الإشعار فقال: كأنه لم يسمع بهذه الشّعيرة في الشّريعة! لهي أشهر منه في العلماء. قلت: والذي رأيته منصوصاً في كتب علماء الحنفية الإشعار مكروه من قول أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد ليس بمكروه ولا سنّة بل هو مباح لأن الإشعار لمّا كان إعلاماً كان سنّة بمنزلة التّقليد، ومن حيث أنه جرح ومُثْلَة كان حراماً، فكان مشتملاً على السنّة والبدعة فجُعلَ مباحاً.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8