الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ يٰقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } * { أَنِ ٱعبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ } * { يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }

{ قَالَ يٰقَوْمِ إِنِّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى }. لم تعطف جملة { قال يا قوم } بالفاء التفريعية على جملةأرسلنا نوحاً إلى قومه } نوح 1 لأنها في معنى البيان لجملةأنذر قومك } نوح 1 لدلالتها على أنه أنذر قومه بما أمره الله أن يقوله لهم، وإنما أُدمج فيه فعل قول نوح للدلالة على أنه أُمر أن يقول فقال، تنبيهاً على مبادرة نوح لإِنذار قومه في حين بلوغ الوحي إليه من الله بأن ينذر قومه. ولك أن تجعلها استئنافاً بيانياً لجواب سؤال السامع أن يسأل ماذا فعل نوح حين أرسل الله إليه { أن أنذر قومك } ، وهما متقاربان. وافتتاح دعوته قومَه بالنداء لطلب إقبال أذهانهم ونداؤهم بعنوان أنهم قومه، تمهيد لقبول نصحه إذ لا يريد الرجل لقومه إلاّ ما يريد لنفسه. وتصدير دعوته بحرف التوكيد لأن المخاطبين يترددون في الخبر. والنذير المنذر غير جار على القياس، وهو مثل بشير، ومثل حكيم بمعنى محكم، وأليم بمعنى مؤلم، وسميع بمعنى مسمع، في قول عَمرو بن معديكرب
أمِنْ ريْحانةَ الداعي السميع   
وقد تقدم في أول سورة البقرة 10 عند قولهولهم عذاب أليم } وحذف متعلق { نذير } لدلالة قوله { أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون } عليه. والتقدير إنّي لكم نذير بعذاب أليم إن لم تعبدوا الله ولم تتقُوه ولم تطيعوني. والمبين يجوز أن يكون من أبان المتعدّي الذي مجرده بَانَ، أي مُوَضِّح أو مِن أبان القاصر، الذي هو مرادف بَان المجردِ، أي نذير وَاضح لكم أني نذير، لأني لا أجتني من دعوتكم فائدة من متاع الدنيا وإنما فائدة ذلك لكم، وهذا مثل قوله في سورة الشعراء 109، 110وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاّ على ربّ العالمين فاتقوا الله وأطيعون } وتقديم { لكم } على عامله وهو { نذير } للاهتمام بتقديم ما دلت عليه اللام من كون النذارة لفائدتهم لا لفائدته. فجمع في صدر دعوته خمسة مؤكدات، وهي النداءُ وجعلُ المنادَى لفظ { يا قوم } المضاف إلى ضميره، وافتتاحُ كلامه بحرف التأكيد، واجتلابُ لام التعليل، وتقديمُ مجرورها. و { أن } في { أن اعبدوا } تفسيرية لأن وصف { نذير } فيه معنى القول دون حروفه، وأمرهم بعبادة الله لأنهم أعرضوا عنها ونسوها بالتمحض لأصنامهم، وكان قوم نوح مشركين كما دل عليه قوله تعالى في سورة يونس 71فأجمِعوا أمركم وشرُكاءكم } وبذلك كان تمثيل حال المشركين من العرب بحال قوم نوح تمثيلاً تاماً. واتقاء الله اتقاء غضبه، فهذا من تعليق الحكم باسم الذات. والمراد حال من أحوال الذات من بابحرمت عليكم الميتة } المائدة 3 أي أكلها، أي بأن يعلموا أنه لا يرضى لعباده الكفر به. وطاعتهم لنوح هي امتثالهم لما دعاهم إليه من التوحيد وقد قال المفسرون لم يكن في شريعة نوح إلاّ الدعوةُ إلى التوحيد فليس في شريعته أعمال تُطلب الطاعة فيها، لكن لم تخل شريعة إلٰهية من تحريم الفواحش مثل قتل الأنفس وسلب الأموال، فقوله { يغفر لكم من ذنوبكم } ينصرف بادىء ذي بدء إلى ذنوب الإِشراك اعتقاداً وسجوداً.

السابقالتالي
2 3 4