{ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ } أي: تتهجد فيه هذه التارات المختلفة، وتتشمر للعبادة فيه هذا التشمر امتثالاً لأمره، وتبتلاً إليه، { وَطَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَ } أي: يعلمهم كذلك، { وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ } أي: أن يجعلهما على مقادير يجريان عليها، فتارة يعتدلان، وتارة يزيد أحدهما في الآخر، وبالعكس مما يشق لأجله المواظبة على قيامه بما علمه منكم - أشار إليه ابن كثير. أو المعنى: يقدر فيهما ما شاء من الأوامر. ومنه تقديره في قيام الليل ما قدره، مما أمر به أول السورة من التخيير، ترخيصاً وتيسيراً. { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ } أي: قيام الليل، على النحو الذي دأبتم عليه، أو قيام الليل كله، للحرج والعسر { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } أي: عاد عليكم باليسر ورفع الحرج. { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ } أي: في صلاة الليل بلا تقدير. أو المراد: لا تتجاوزوا ما قدره لكم، رحمة بأنفسكم. وفيه رد من غلوهم في قيام الليل كله، أو الحرص عليه شوقاً إلى العبادة، وسبقاً إلى الكمالات. قال مقاتل: كان الرجل يصلي الليل كله، مخافة ألا يصيب مما أمر به من قيام ما فرض عليه - نقله الرازي. { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ } أي: يضعفهم المرض عن قيام الليل { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ } أي: للتجارة وغيرها، فيقعدهم ذلك عن قيام الليل { وَآخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي: لنصرة الدين، فلا يتفرغون للقيام فيه { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } أي: من القرآن. ولا تحرّجوا أنفسكم، لأنه تعالى يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر. تنبيهات الأول: ذهب كثير من السلف إلى وجوب قيام الليل المفهوم من الأمر به طليعة السورة، منسوخ بهذه الآيات. روى ابن جرير عن عائشة قالت: " كنت أجعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصيراً يصلي عليه من الليل، فتسامع به الناس فاجتمعوا، فخرج كالمغضب - وكان بهم رحيما - فخشي أن يكتب عليهم قيام الليل، فقال: يا أيها الناس؟ اكلفوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل من الثواب، حتى تملوا من العمل، وخير الأعمال ما دمتم عليه " ونزل القرآن.{ يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ * قُمِ ٱلَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً... } [المزمل: 1 - 2] الآية، حتى كان الرجل يربط الحبل ويتعلق، فمكثوا بذلك ثمانية أشهر، فرأى الله ما يبتغون من رضوانه فرحمهم، فردهم إلى الفريضة، وترك قيام الليل. قال ابن كثير: والحديث في الصحيح بدون زيادة نزول هذه السورة. وهذا السياق قد يوهم أن نزول هذه السورة بالمدينة، وليس كذلك، وإنما هي مكية. انتهى كلامه. أقول: وبمثل هذه الرواية يستدل على أن مراد السلف بقولهم: (ونزلت الآية) الاستشهاد بها في قضية تنطبق عليها - كما بيناه مراراً.