الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَ وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ وَأَقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

قوله - عز وجل -: { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ }:

قال أبو عبيد: الصواب أن يقرأ: { وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ } بالخفض؛ على معنى إضافة { أَدْنَىٰ } إليها، فكأنه يقول: إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل، وأدنى من نصفه، وأدنى من ثلثه، و { أَدْنَىٰ } يكون على الزيادة والنقصان جميعا؛ لأن فضل ما بين الثلث، إلى النصف هو السدس؛ فإذا زاد على الثلث أقل من نصف السدس، فهو إلى الثلث أدنى، وكذلك إذا نقص من الثلث شيئا قليلا، فهو إلى الثلث قريب؛ فيكون إليه أدنى، وكذلك الفضل فيما بين النصف إلى الثلثين هو السدس، فإذا زاد على النصف أكثر من نصف السدس، فهو إلى الثلثين أدنى، وإذا نقص من نصف السدس فهو إلى النصف أدنى وأقرب.

ومنهم من اختار النصب فيهما، والوجهان جميعا محتملان؛ لأن قوله: { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيْلِ وَنِصْفَهُ } ليس فيه إيجاب حكم مبتدأ؛ وإنما فيه إخبار عن القيام الذي وجد من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فجائز أن يكون وجد منه [ذلك كله، وهو أن يكون قريباً من الثلثين، وقريباً من النصف، وأدنى من الثلث؛ على ما ذكره أهل المقالة الأولى، ويكون قد قام] أدنى من ثلثي الليل، وقام نصفه وثلثه، وأدنى من نصفه وأدنى من ثلثه، فذكر في الثلثين الأدنى؛ لما وجد منه الأدنى من جهة الزيادة والنقصان، ولم يوجد موافقة الثلثين، وأخبر بالنصف والثلث بالأمرين جميعا؛ لوجود الموافقة، وهو أن يكون قام نصف الليل، وقام ثلثه، وقام أدنى من النصف، وأدنى من الثلث، وإذا كان هذا كله محتملا، لم يجز أن يدفع أحد الوجهين، ويتمسك بالوجه الآخر؛ وهذا كقوله تعالى:قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَـٰؤُلاۤءِ } [الإسراء: 102]، فقرئ برفع التاء ونصبه جميعا؛ لما وجد الأمران جميعا، وهو أن يكون موسى - عليه السلام - وفرعون عَلِما بها أي: بالآيات جميعا.

وكذلك قال في سورة سبأ:رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } [سبأ: 19]، وقرئ: { رَبُّنَا بَاعَدَ بين أسفارنا }؛ لوجود الأمرين جميعا وهو الدعاء والإجابة؛ فقوله - عز وجل -: { رَبَّنَا بَاعِدْ } دعاء، وقوله: { رَبُّنَا بَاعَدَ } على الإجابة، ففرق بينهما بالإعراب؛ فكذلك هاهنا لما استقام وجود الوجهين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، استقام أن يقرأ بالنصب والخفض جميعا، ويفرق بينهما بالإعراب، والله أعلم.

ثم يجوز أن يكون المفروض من القيام قدر ثلث الليل، ويكون الزيادة بحكم النافلة.

ويجوز أن يكون مفروضا، وإن طال، وزاد على الثلث والنصف والثلثين، وإن كان يجوز له الاقتصار على ثلث الليل؛ ألا ترى أن فرض الركوع والسجود يقضى بإدراك جزء منه، وكذلك فرض القيام [يقضى] بالجزء منه، ثم إن الركوع وإن طال فهو من أوله إلى آخره فرض حتى لو أن داخلا شاركه في أول الركوع، ثم رفع رأسه، وشاركه ثالث في آخر ركوعه، ثم رفع رأسه مع الإمام، صار كل واحد منهم مدركا لفرض الركوع، وإن كان الإمام لو اقتصر على جزء منه، كفاه ذلك عن فرضه؛ فكذلك الفرض لما انصرف إلى قيام الليل فصار جميع ما يؤتى من القيام في الليل وإن طال فرضا، وإن كان قد يجوز الاجتزاء ببعضه.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8