الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَالَ ٱلَّذِي ٱشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }

{ وَقَالَ ٱلَّذِى ٱشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِى مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا }. { الذي اشتراه } مراد منه الذي دفع الثمن فملكه وإن كان لم يتول الاشتراء بنفسه، فإن فعل الاشتراء لا يدل إلاّ على دفع العوض، بحيث إن إسناد الاشتراء لمن يتولى إعطاء الثمن وتسلم المبيع إذا لم يكن هو مالك الثمن ومالك المبيع يكون إسناداً مجازياً، ولذلك يكتب الموثّقون في مثل هذا أن شراءه لفلان. والذي اشترى يوسفَ ـــ عليه السّلام ـــ رجل اسمه فوطيفار رئيس شرط ملك مصر، وهو والي مدينة مصر، ولقّب في هذه السورة بالعزيز، وسيأتي. ومدينة مصر هي منفيس ويقال منف وهي قاعدة مصر السفلى التي يحكمها قبائل من الكنعانيين عرفوا عند القبط باسم الهيكسوس أي الرعاة. وكانت مصر العليا المعروفة اليوم بالصعيد تحت حكم فراعنة القبط. وكانت مدينتها ثيبة ـــ أو ـــ طيبة، وهي اليوم خراب وموضعها يسمّى الأقصر، جمع قصر، لأن بها أطلال القصور القديمة، أي الهياكل. وكانت حكومة مصر العليا أيامئذٍ مستضعفة لغلبة الكنعانيين على معظم القطر وأجوده. وامرأته تسمّى في كتب العرب زَلِيخا ـــ بفتح الزاي وكسر اللام وقصر آخره ـــ وسماها اليهود راعيل. و { من مصر } صفة لـــ { الذي اشتراه }. و { لامرأته } متعلق بـــ { قال } أو بـــ { اشتراه } أو يتنازعه كلا الفعلين، فيكون اشتراه ليهبه لها لتتخذه ولداً. وهذا يقتضي أنهما لم يكن لهما ولد. وامرأته معناه زوجه، فإن الزوجة يطلق عليها اسم المرأة ويراد منه معنى الزوجة. وقد تقدم عند قوله تعالىوامرأته قائمة فضحكت } سورة هود 71. والمثوى حقيقته المحل الذي يَثوي إليه المرء، أي يرجع إليه. وتقدم عند قوله تعالىقال النار مثواكم } في سورة الأنعام 128. وهو هنا كناية عن حال الإقامة عندهما لأن المرء يثوَى إلى منزل إقامته. فالمعنى اجعلي إقامته عندك كريمة، أي كاملة في نوعها. أراد أن يجعل الإحسان إليه سبباً في اجتلاب محبته إياهما ونصحه لهما فينفعهما، أو يتخذانه ولداً فيبرّ بهما وذلك أشد تقريباً. ولعله كان آيساً من ولادة زوجه. وإنما قال ذلك لحسن تفرّسه في ملامح يوسف ـــ عليه السّلام ـــ المؤذنة بالكمال، وكيف لا يكون رجلاً ذا فراسة وقد جعله الملك رئيس شرطته، فقد كان الملوك أهل حذر فلا يولون أمورهم غير الأكفاء. { وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى ٱلأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }. إن أجرينا اسم الإشارة على قياس كثير من أمثاله في القرآن كقولهوكذلك جعلناكم أمةً وسطاً } في سورة البقرة 143 كانت الإشارة إلى التمكين المستفاد من { مكّنّا ليوسف } تنويهاً بأن ذلك التمكين بلغ غاية ما يطلب من نوعه بحيث لو أريد تشبيهه بتمكين أتم منه لما كان إلا أن يشبّه بنفسه على نحو قول النابغة

السابقالتالي
2