الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوۤاْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً }

هذه الأشياء من شعار الملوك في عرف الناس زَمانَئِذ، فهذا مرتبط بقولهومُلكاً كبيراً } الإنسان 20. وقرأ نافع وحمزة وأبو جعفر { عَاليهم } بسكون الياء على أن الكلام جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لجملةرأيْتَ نعيماً ومُلْكاً كبيراً } الإنسان 20، فـ { عاليهم } مبتدأ و { ثياب سندس } فاعلُه سادٌّ مسدّ الخبر وقد عمل في فاعله وإن لم يكن معتمداً على نفي أو استفهام أو وصف، وهي لغة خَبير بنو لهب وتكون الجملة في موضع البيان لجملةرأيت نعيماً } الإنسان 20. وقرأ بقية العشرة { عَاليَهم } بفتح التحتية على أنه حال مفرد لـالأبرار } الإنسان 5، أي تلك حالة أهل الملك الكبير. وإضافة { ثياب } إلى { سندس } بيانية مثل خَاتَم ذَهَبِ، وثَوْبِ خَزٍّ، أي منه. والسندس الديباج الرقيق. والإستبرق الديباج الغليظ وتقدما عند قوله تعالىويلبسون ثياباً خضراً من سندس وإستبرق } في سورة الكهف 31 وهما معرَّبان. فأما السندس فمعرب عن اللغة الهندية وأصله سندون بنون في آخره، قيل إن سبب هذه التسمية أنه جلب إلى الإِسكندر، وقيل له إن اسمه سندون فصيره للغة اليونان سندوس لأنهم يكثرون تنهية الأسماء بحرف السين وصيّره العرب سُندساً. وفي اللسان أن السندس يتخذ من المِرْعِزَّى كذا ضبطه مصححه والمعروف المِرْعِز كما في «التذكرة» و«شفاء الغليل». وفي «التذكرة» المِرْعز ما نَعُم وطال من الصوف اهـ. فلعله صوف حيوان خاص فيه طول أو هو من نوع الشعَر، والظاهر أنه لا يكون إلاّ أخضر اللون لقول يزيد بن حذاق العبدي يصف مرعى فَرسه
وداوَيْتُها حتى شَتَتْ حَبَشِيَّةً كأنَّ عليها سُندساً وسُدُوساً   
أي في أرض شديدة الخضرة كلون الحَبشي. وفي «اللسان» السدوس الطيلسان الأخضر. ولقول أبي تمَّام يرثي محمد بن حميد النبهاني الطوسي
تَرَدَّى ثيَابَ الموتِ حُمْراً فما أتَى لها الليلُ إلاَّ وهْيَ من سُندس خُضْرُ   
وأما الإِستبرق فنسج من نسج الفرس واسمه فارسي، وأصله في الفارسية استقره. والمعنى أن فوقهم ثياباً من الصنفين يلبسون هذا وذاك جمعاً بين محاسن كليهما، وهي أفخر لباس الملوك وأهل الثروَة. ولون الأخضر أمتع للعين وكان من شعار الملوك، قال النابغة يمدح ملوك غسان
يَصونُون أجْساداً قديما نعيمها بخَالصةِ الأردَان خُضْر المَنَاكِب   
والظاهر أن السندس كان لا يصبغ إلاّ أخضر اللون. وقرأ نافع وحفص " خضرٌ " بالرفع على الصفة لـ { ثياب }. و " إستبرقٌ " بالرفع أيضاً على أنه معطوف على { ثياب } بقيد كونها من سندس فمعنى عاليهم إستبرق أن الإِستبرق لباسُهم. وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم " خُضْرٍ " بالجر نعتاً لـ { سندس } ، و " إستبرق " بالرفع عطفاً على { ثياب }. وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب " خُضْرٌ " بالرفع و " إستبرقٍ " بالجر عطفاً على { سندس } بتقدير وثياب إستبرق.

السابقالتالي
2