الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ هُوَ ٱلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ ٱلْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ }

وهذه الآية الكريمة جاءت مرحلة من مراحل إخبار الله سبحانه وتعالى عن المعاندين لدعوة الإسلام، التي بدأها الحق سبحانه بأنه قد رحمهم فأجّل لهم استجابة دعائهم على أنفسهم بالشر، ولو أنه أجابهم إلى ما دَعَوْا به على أنفسهم من الشر في قولهم:إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ.. } [الأنفال: 32]. لقضي أمرهم: فمن رحمة الله تعالى أنه لم يُجِبْهم إلى دعائهم. وإذا كان الله سبحانه قد أجَّل استجابة دعائهم على أنفسهم بالشر رحمة بهم، فيجب أن يعرفوا أن تأجيل استجابتهم بدعاء الخير رحمة بهم أيضاً لأنهم قد يدعون بالشر وهم يظنون أنهم يدعون بالخير، وبعد ذلك دلّل على كذبهم في دعائهم على أنفسهم بالشر بأنهم إذا مسّهم ضرٌّ دعوا الله تعالى مضطجعين وقاعدين وقائمين. فلو كانوا يحبون الشر لأنفسهم لظلوا على ما هم فيه من البلاء إلى أن يقضي الله تعالى فيهم أمراً. ثم عرض سبحانه قضية أخرى، وهي أنه سبحانه إذا مسهم بضر ليعتبروا، جاء الله سبحانه برحمته لينقذهم من هذا الضر. فياليتهم شركوا نعمة الله تعالى في الرحمة من بعد الضر، ولكنهم مرُّوا كأن لم يدعوا الله سبحانه إلى ضر مسَّهم. وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، يصور لنا الحق سبحانه وضعاً آخر، هو وضع السير في البر والبحر، فيقول: { هُوَ ٱلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ.. } [يونس: 22]. وكلمة { يُسَيِّرُكُمْ } تدل على أن الذي يسِّير هو الله، ولكن في القرآن آيات تثبت أن السير يُنسب إلى البشر حين يقول:قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ.. } [النمل: 69]. وحين يقول الحق سبحانه:فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى ٱلأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ.. } [القصص: 29]. وهو سبحانه يقول:سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ.. } [سبأ: 18]. فكأن هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها قد نسبت التسيير إلى الله سبحانه، وبعض الآيات الأخرى نسبت التسيير إلى النفس الإنسانية، ونقول لمن توهموا أن في ذلك تعارضاً: لو أنكم فطنتم إلى تعريف الفاعل عند النحاة وكيف يرفعونه لعرفتم أن تحقق أي فعل إنما يعود إلى مشيئة الله سبحانه، فحين نقول: " نجح فلان " فهل هو الذي نجح، أم أن الذي سمح له بالنجاح غيره؟ إن الممتحن والمصحِّح هما من سمحا له بالنجاح تقديراً لإجاباته التي تدل على بذَل المجهود في الاستذكار. وكذلك نقول: " مات فلان " ، فهل فلان فعل الموت بنفسه؟ خصوصاً ونحن نعرب " مات " كفعل ماضٍ، ونعرب كلمة فلان " فاعل " أو نقول: إن الموت قد وقع عليه واتَّصف به لأن تعريف الفاعل: هو الذي يفعل الفعل، أو يتّصف به.

السابقالتالي
2 3 4 5