الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ }

عطف على جملةإنه لقول رسول كريم } التكوير 19 فهو داخل في خبر القَسَم جواباً ثانياً عن القَسَم، والمعنى وما هو أي القرآن بقول مجنون كما تزعمون، فبعد أن أثنى الله على القرآن بأنه قول رسول مُرسَلٍ من الله وكان قد تضمن ذلك ثناءً على النبي صلى الله عليه وسلم بأنه صادق فيما بلغه عَن الله تعالى، أعقبه بإبطال بهتان المشركين فيما اختلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم من قولهممعلّم مجنون } الدخان 14 وقولهمأفترى على اللَّه كذباً أم به جنة } سبأ 8، فأبطل قولهم إبطالاً مؤكداً ومؤيداً، فتأكيده بالقَسم وبزيادة الباء بعد النفي، وتأييده بما أومأ إليه وصفه بأن الذي بلّغه صاحِبُهم، فإن وصف صاحب كناية عن كونهم يعلمون خُلقه وعقلَه ويعلمون أنه ليس بمجنون، إذ شأن الصاحب أن لا تَخفى دقائقُ أحواله على أصحابه. والمعنى نفي أن يكون القرآن من وساوس المجانين، فسلامة مُبَلِّغِه من الجنون تقتضي سلامة قوله عن أن يكون وَسْوَسَة. ويجري على ما تقدم من القول بأن المراد بــــرسول كريم } التكوير 19 النبي محمد صلى الله عليه وسلم أن يكون قوله { صاحبكم } هنا إظهاراً في مقام الإِضمار للتعريض بأنه معروف عندهم بصحة العقل وأصالة الرأي. والصاحب حقيقته ذو الصحبة، وهي الملازمة في أحوال التجمع والانفراد للمؤانسة والموافقة، ومنه قيل للزوج صاحبةٌ وللمسافر مع غيره صاحبٌ، قال امرؤ القيس
بَكَى صاحبي لَمَّا رأي الدَّرْبَ دونَه   
وقال تعالى حكاية عن يوسفيا صاحبي السجن } يوسف 39، وقال الحريري في «المقامة الحادية والعشرين» «ولا لَكم مني إلا صُحْبَة السفينة». وقد يتوسعون في إطلاقه على المخالِط في أحوال كثيرة ولو في الشر، كقول الحجاج يخاطب الخوارج «ألسْتُم أصحابي بالأهواز حينَ رمتم الغدر، واستبطنتم الكفر». وقول الفضل اللّهبِي
كلّ له نيَّة في بُغْضِ صاحبه بنعمةِ اللَّه نَقْلِيكم وتَقْلُونا   
والمعنى أن الذي تخاصمونه وتكذبونه وتصفونه بالجنون ليس بمجنون وأنكم مخالطوه وملازموه وتعلمون حقيقته فما قولكم عليه «إنه مجنون» إلا لقصد البهتان وإساءة السمعة. فهذا موقع هذه الجملة مع ما قبلها وما بعدها، والقصد من ذلك إثبات صدق محمد صلى الله عليه وسلم ولا يخطر بالبال أنها مسوقة في معرض الموازنة والمفاضلة بين جبريل ومحمد عليهما السلام والشهادة لهما بمزاياهما حتى يشم من وفرة الصفات المجراة على جبريل أنه أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم ولا أن المبالغة في أوصاف جبريل مع الاقتصاد في أوصاف محمد صلى الله عليه وسلم تؤذن بتفضيل أولهما على الثاني. ومن أسمج الكلام وأضعف الاستدلال قول صاحب «الكشاف» «وناهيك بهذا دليلاً على جلالة مكانة جبريل عليه السلام ومباينة منزلته لمنزلة أفضل الإنس محمد صلى الله عليه وسلم إذا وازنت بين الذِّكْرين وقايست بين قوله

السابقالتالي
2