الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلْمُحْصَنَٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَٰنُكُمْ كِتَٰبَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَٰلِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ فَمَا ٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَٰضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ ٱلْفَرِيضَةِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً }

فيه أربع عشرة مسألة: الأُولىٰ ـ قوله تعالىٰ: { وَٱلْمُحْصَنَاتُ } عطف على المحرّمات والمذكورات قبلُ. والتّحَصُّن: التمنّع ومنه الحِصْن لأنه يُمتنع فيه ومنه قوله تعالىٰ:وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ } [الأنبياء: 80] أي لتمنعكم ومنه الحصان للفرس بكسر الحاء لأنه يمنع صاحبه من الهلاك. والحصان بفتح الحاء: المرأة العفيفة لمنعها نفسها من الهلاك. وحَصُنت المرأة تَحْصُن فهي حَصان مثل جبنت فهي جبان. وقال حَسَّان في عائشة رضي الله عنها:
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنّ بِريبةٍ   وتُصبِح غَرْثَىٰ من لحُومِ الغَوَافِل
والمصدر الحصانة بفتح الحاء والحِصن كالعِلْم. فالمراد بالمحصنَات هٰهنا ذوات الأزواج يُقال: ٱمرأة مُحْصنة أي متزوّجة، ومحصِنة أي حُرّة ومنهوَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلْمُؤْمِنَاتِ وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ } [المائدة: 5]. ومحصِنَة أي عفيفة قال الله تعالىٰ:مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ } [النساء:25] وقال: { مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ }. ومُحصَنَة ومُحْصِنة وحَصان أي عفيفة، أي ممتنعة من الفسق والحرّية تمنع الحُرّة مما يتعاطاه العبيد. قال الله تعالىٰ:وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ } [النور: 4] أي الحرائر، وكان عُرْف الإماء في الجاهلية الزّنى ألا ترى إلى قول هِند بنتِ عُتبة للنبيّ صلى الله عليه وسلم حين بايعته: «وَهَلْ تَزْنِي الحُرّة»؟ والزوج أيضاً يمنع زوجه من أن تَزوّج غيره فبِناءح ص ن معناه المنع كما بيّنا. ويستعمل الإحصان في الإسلام لأنه حافظ ومانع، ولم يرد في الكتاب وورد في السنة ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: " الإيمان قَيْدُ الفَتْكِ " ومنه قول الهُذَلِيّ:
فليس كعهدِ الدّار يا أُمَّ مالكٍ   ولكن أحاطتْ بالرّقاب السلاسِلُ
وقــال الشاعر:
قالت هَلُمّ إلى الحديث فقلت لا   يأبى عليكِ اللَّهُ والإسلامُ
ومنه قول سُحَيم:
كفـى الشيـبُ والإسـلام للمرء ناهياً   
الثانية ـ إذا ثبت هذا فقد ٱختلف العلماء في تأويل هذه الآية فقال ٱبن عباس وأبو قلابة وٱبن زيد ومَكْحُولٌ والزُّهِريّ وأبو سعيدٍ الخُدْرِيّ: المراد بالمحصَنات هنا المسْبِيّات ذواتُ الأزواج خاصة، أي هنّ محرّمات إلاَّ ما ملكت اليَمين بالسبْي من أرض الحرب، فإن تلك حلال للَّذي تقع في سهمه وإن كان لها زوج. وهو قول الشافعيّ في أن السِّباء يقطع العِصمة وقاله ٱبن وهب وٱبن عبد الحكم وروياه عن مالك، وقال به أَشهب. يدلّ عليه ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيدٍ الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ حُنينٍ بعث جيشاً إلى أوْطاسٍ فلقوا العدوّ فقاتلوهم وظهروا عليهم وأصابوا لهم سَبَايَا فكان ناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم تحرّجوا من غِشْيانهنّ من أجل أزواجهنّ من المشركين، فأنزل الله عزّ وجلّفي ذلك { وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ }. أي فهنّ لكم حلال إذا ٱنقضت عدّتهنّ.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد