الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً }

قوله: { مِن تَحْتِهَآ }: قرأ الأخَوَان ونافع وحفص بكسر ميم " مِنْ " ، وجَرَّ " تحتِها " على الجار والمجرور. والباقون بفتحها ونصب " تحتَها ". فالقراءةُ الأولى تقتضي أن يكونَ الفاعلُ في " نادَى " مضمراً وفيه تأويلان، أحدهما: هو جبريل ومعنى كونِه { مِن تَحْتِهَآ } أنه في مكانٍ أسفلَ منها. ويَدُل على ذلك قراءةُ ابنِ عباس " فناداها مَلَكٌ مِنْ تحتها: فَصَرَّح به. و { مِن تَحْتِهَآ } على هذا فيه وجهان أحدهما: أنه متعلقٌ بالنداء، أي: جاء النداء مِنْ هذه الجهةِ. والثاني: أنه حالٌ من الفاعل، أي: فناداها وهو تحتَها.

وثاني التأويلين: أنَّ الضمير لعيسى، لأي: فناداها المولودُ مِنْ تحت ذَيْلها. والجارُّ فيه الوجهان: مِنْ كونِه متعلِّقاً بالنداء، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ. والثاني أوضح.

والقراءةُ الثانية: تكون فيها " مَنْ " موصولةً، والظرفُ صلتُها، والمرادُ بالموصولِ: إمَّا جبريلُ، وإمَّا عيسى.

قوله: { أَلاَّ تَحْزَنِي } يجوزُ في " أَنْ " أَنْ تكونَ مفسرةً لتقدُّمِها ما هو بمعنى القول، و " لا " على هذا ناهيةٌ، وحَذْفُ النونِ للجزم؛ وأَنْ تكونَ الناصبةَ و " لا " حينئذٍ نافيةٌ، وحَذْفُ النونِ للنصبِ. ومَحَلُّ " أنْ ": إمَّا نصب أو جرٌّ لأنها على حَذْفِ حرفِ الجر، أي: فناداها بكذا. والضمير في " تحتها ": إمَّا لمريمَ عليها السلام، وإمَّا للنخلةِ، والأولُ أَوْلَى لتوافُقِ الضميرين.

قوله: " سَرِيَّا " يجوز أَنْ يكونَ مفعولاً أولَ، و " تحتك " مفعولٌ ثان لأنها بمعنى صَيَّر. ويجوز أن تكون بمعنى خَلَق، فتكون " تحتك " لغواً.

والسَّرِيُّ فيه قولان، أحدهما: أنه الرجلُ المرتفعُ القَدْرِ، مِنْ سَرُوَ يَسْرُو كشَرُف يَشْرُف، فهو سَرِيٌّ. وأصله سَرِيْوٌ، فأُعِلَّ إعلالَ سَيِّد، فلامُه واوٌ. والمرادُ به في الآية عيسى بن مريم عليه السلام، ويُجْمع " سَرِيُّ " على " سَراة " بفتح السين، وسُرَواء كظُرَفاء، وهما جمعان شاذَّان، بل قياسُ جَمْعِه " أَسْرِياء " ، كغنِيِّ وأَغْنِياء. وقيل: السَّرِيُّ: مِنْ سَرَوْتُ الثوبَ، أي: نَزَعْتُه، وسَرَوْتُ الجُلَّ عن الفَرَس، أي: نَزَعْتُه. كأنَّ السَّرِيَّ سَرَى ثوبَه، بخلاف المُدَّثِّر والمُتَزَمِّل. قاله الراغب.

والثاني: أنه النهرُ الصغير، ويناسِبُه " فكُلي واشربي " واشتقاقه مِنْ سَرَى يَسْرِي، لأن الماءَ يَسْري فيه، فلامُه على هذا ياء، وأنشدوا للبيد:
3221- فتوسَّطا عُرْضَ السَّرِيِّ فَصَدَّعا   مَسْجورةً مُتَجاوِزاً قُلاَّمُها