الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ } * { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِٱلْغَيْبِ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ }

ولما كان من جملة صفات المختال المكاثر بالمال البخل، وكان قد تقدم الحث على الإنفاق، وكان ما يوجبه لذة الفخار والاختيال التي أوصل إليها المال حاملة على البخل خوفاً من الإقتار الموجب عند أهل الدنيا للصغار، قال تعالى واصفاً للمختال أو { لكل }: { الذين يبخلون } أي يوجدون هذه الحقيقة مع الاستمرار { ويأمرون الناس } أي كل من يعرفونه { بالبخل } إرادة أن يكون لهم رفقاء يعملون بأعمالهم الخبيثة فيحامون عنهم أو أنهم يوجبون بأعمالهم من التكبر والبطر في الأموال التي حصلها لهم البخل استدراجاً من الله لهم بخل غيرهم لأنه إذا رآهم عظموا بالمال بخل ليكثر ماله ويعظم، وذلك كله نتيجة فرحهم بالموجود وبطرهم عند إصابته، فكانوا آمرين بالبخل لكونهم أسباباً له والسبب كالآمر في إيجاد شيء.

ولما كان التقدير: فمن أقبل على ما ندب إليه من الإقراض الحسن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن الله شكور حليم، عطف عليه قوله ذاماً للبخل محذراً منه: { ومن يتول } أي يكلف نفسه من الإعراض ضد ما في فطرته من محبة الخير والإقبال على الله { فإن الله } أي الذي له جميع صفات الكمال { هو } أي وحده { الغني } أي عن ماله وإنفاقه وكل شيء إلى الله مفتقر { الحميد * } أي المستحق للحمد وسواء حمده الحامدون أم لا، وقراءة نافع وابن عامر بإسقاط هو مفيدة لحصر المبتدأ في الخبر للتعريف وإن كانت قراءة الجماعة آكد.

ولما ظهرت الأدلة حتى لم يبق لأحد علة، وانتشر نورها حتى ملأ الأكوان، وعلا علواً تضاءل دون عليائه كيوان، وكان فيما تقدم شرح مآل الدنيا وبيان حقيقتها، وأن الأدمي إذا خلي ونفسه ارتكب ما لا يليق من التفاخر وما شاكله وترك ما يراد به مما دعي إليه من الخير جهلاً منه وانقياداً مع طبعه، وكان ختم الآية السابقة ربما أوهم المشاركة، قال تعالى نافياً ذلك في جواب من توقع الإخبار عن سائر الأنبياء: هو أوتوا من البيان ما أزال اللبس، مؤكداً لإزالة العذر بإقامة الحجج بإرسال الرسل بالمعجزات الحاضرة والكتب الباقية، معلماً أن من أعرض كلف الإقبال بالسيف، فإن الحكيم العظيم تأبى عظمته وحكمته أن يخلي المعرض عن بينة ترده عما هو فيه، وقسر يكفيه عما يطغيه: { لقد أرسلنا } أي بما لنا من العظمة { رسلنا } أي الذين لهم نهاية الإجلال بما لهم بنا من الاتصال من الملائكة إلى الأنبياء على جميعهم أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام، ومن الأنبياء إلى الأمم { بالبينات } أي الموجبة للإقبال في الحال لكونها لا لبس فيها أصلاً، ودل على عظمة أنبيائه عليهم الصلاة والسلام بأنهم لعلو مقاماتهم بالإرسال كأنهم أتوا إلى العباد من موضع عال جداً فقال: { وأنزلنا } بعظمتنا التي لا شيء أعلى منها { معهم الكتاب } أي الحافظ في زمن الاستقبال في الأحكام والشرائع.

السابقالتالي
2 3