الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ } * { وَلَقَدْ رَآهُ بِٱلأُفُقِ ٱلْمُبِينِ } * { وَمَا هُوَ عَلَى ٱلْغَيْبِ بِضَنِينٍ } * { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ }

{ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ } أي: ليس ممن يتكلم عن جِنَّةِ ويهذي هذيان المجانين.بَلْ جَآءَ بِٱلْحَقِّ وَصَدَّقَ ٱلْمُرْسَلِينَ } [الصافات: 37] وهذا نفي لما كان يبهته به أعداؤه صلى الله عليه وسلم حسداً ولؤماً.

قال الشهاب: وفي قوله: { صَاحِبُكُمْ } تكذيب لهم بألطف وجه. إذ هو إيماء إلى أنه نشأ بين أظهركم من ابتداء أمره إلى الآن، فأنتم أعرف به وبأنه أتم الخلق عقلاً وأرجحهم نبلاً وأكملهم وأصفاهم ذهناً. فلا يسند له الجنون إلا من هو مركب من الحمق والجنون. ولله در البحتري في قوله:
إذا مَحَاسِنَي الَّلاتي أَدِلُّ بها   كانت ذُنوبي، فقل لي كَيْفَ أَعْتَذرْ
{ وَلَقَدْ رَآهُ بِٱلأُفُقِ ٱلْمُبِينِ } أي: ولقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل بالأفق الأعلى، المظهر لما يرى فيه.

قال ابن كثير: والظاهر، والله أعلم، أن هذه السورة نزلت قبل ليلة الإسراء؛ لأنه لم يذكر فيها إلا هذه الرؤية وهي الأولى. وأما الثانية وهي المذكورة في قوله تعالى:وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ * عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ * عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰ } [النجم 13 - 15] فتلك إنما ذكرت في سورة النجم، وقد نزلت بعد سورة الإسراء.

والقصد من بيان رؤيته لجبريل عليهما السلام متمثلاً له: هو التحقيق الموحي به، وأن أمره مبني على مشاهدة وعيان لا على ظن وحسبان. وما سبيله كذلك فلا مدخل للريب فيه { وَمَا هُوَ عَلَى ٱلْغَيْبِ بِضَنِينٍ } أي: ببخيل.

قال مجاهد: ما يضن عليكم بما يعلم. أي: لا يبخل بالتعليم والتبليغ. وقال الفراء: يأتيه غيب السماء، وهو شيء نفيس، فلا يبخل به عليكم. وقال أبو عليّ الفارسيّ: المعنى أنه يخبر بالغيب فيبينه ولا يكتمه، كما يكتم الكاهن ذلك ويمتنع من إعلامه حتى يأخذ عليه حلواناً. وقرئ (بظنين) بالظاء: أي: ما هو بمتهم على ما يخبر به من الغيب.

قال القاشاني: لامتناع استيلاء شيطان الوهم وجنّ التخيل عليه، فيخلط كلامه ويمتزج المعنى القدسيّ بالوهميّ والخياليّ؛ لأن عقله صفيّ عن شوب الوهم. والمعنى أنه صادق فيما يخبر به من الوحي واليوم الآخر والجزاء، ليس من شأنه أن يتهم فيه. كما قال هرقل لأبي سفيان: وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمتَ أن لا. فعرفتُ أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله.

تنبيه

قال ابن جرير: وأوْلى القراءتين في ذلك عندي بالصواب، ما عليه خطوط مصاحف المسلمين متفقة وإن اختلفت قراءتهم به، وذلك { بِضَنِينٍ } بالضاد. لأن ذلك كله كذلك في خطوطها. فأولى التأويلين بالصواب في ذلك، تأويل من تأوَله (وما محمد، على ما علمه الله من وحيه وتنزيله، ببخيل بتعليمكموه أيها الناس. بل هو حريص على أن تؤمنوا به وتتعلموه) انتهى.

السابقالتالي
2