الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلْجُنُودِ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّيۤ إِلاَّ مَنِ ٱغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا ٱلْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ }

قلت: قال في القاموس: غَرَفَ الماء يِغْرُفُه: أخذ بيده، كاغْتَرَفه، والغَرْفَةُ للمَرَّة، وبالكسر: هيئة الغرف وبالضام: اسم للمفعول، كالغرافة، لأنك ما لم تغرفه لا تسميه غُرْفَة، ثم قال: والغُرْفَةُ، بالضم: العُلِّيَّة. يقول الحقّ جلّ جلاله: ولما اتفقوا على مُلك طالوت تجهز للخروج، وقال: لا يخرج معه إلا الشبابُ النشيط الفارغُ ليس وراءه غُلْقة، فاجتمع ممن اختار ثمانون ألفاً، وقي: ثلاثون، فلما انفصل عن بلده بالجنود وساروا في البيداء - وكان وقت الحرِّ والقيّظ - عطشوا، وسألوا طالوتَ أن يُجري لهم نهراً، فقال لهم بوحْي، أو بإلهام، أو بأمر نبيهم: { إن الله مبتليكم } أي: مُختبركم { بنهر } بسبب اقتراحكم، { فمن شرب منه } كَرْعاً بلا واسطة { فليس مني } أي: من جيشي، { ومن لم يطعمه } أي: يَذْقه، { فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده } فإنها تكفيه لنفسه ولفرسه، فالاستثناء من الجملة الأولى. { فشربوا منه } أي: كَرعُوا، وسقطوا على وجوههم، { إلا قليلاً منهم } ثلاثُمائةٍ وأربعةَ عشر، على عدد أهل بدر، وقيل: ألفاً. رُوِيَ أن من اقتصر على الغَرفة كَفَتْه لشربه ودوابه، ومن لم يقتصر غلب عطشُه، واسودَّتْ شفتُه ولم يقدْر أن يمضيَ. وعن ابن عباس: أن القومَ شربوا على قدر يقينهم: فالكفار شربوا شُربَ الهيم، وشَرِب العاصي دون ذلك، وانصرف من القوم ستةٌ وسبعون ألفاً، وبقي بعضُ المؤمنين لم يشرب شيئاً، وأخذ بعضهم الغَرفة، فأما من شرب فاشتد به العطشُ وسقط، وأما من ترك الماءَ فحسن حالُه، وكان أجلَد ممن أخذ الغرفة. هـ. وحكمة هذ الامتحان: ليتخلص للجهاد المطيعون المخلصون، إذ لا يقع النصر إلاَّ بهم، فلما جاوز النهرَ طالوتُ ومن بقيَ معه ممن لم يشربْ قال بعضهم لبعض: { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } لكثرتهم وقلة عددنا، { قال الذين يظنون } أي: يَتَيَقَّنْون { أنهم ملاقوا الله } ويتوقعون ثوابَ الشهادة وهم الخُلْصُ من أهل البصيرة: لا تفزعوا من كثرة عددهم { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } وإرادته ومعونته، و { كم } للتكثير، { والله مع الصابرين } بالنصر والمعونة. الإشارة: قال بعض الحكماء: الدنيا كنهر طالوت، لا ينجو منها إلا من لم يشربْ أو اغترف غرفةً بيده، فمن أخذ منها قَدْرَ الضرورةِ كَفَتْه، ونَشَطَ لعبادة مولاه، ومن أخذ فوق الحاجة حُبس في سجنها، وكان أسيراً في يدها. وقال بعضهم: طالبُ الدنيا كشارب ماءِ البحر، كلما زاد شربه ازداد عطشه. هـ. وقال صلى الله عليه وسلم: " من أُشرب قلبه حُبَ الدنيا التاط منها بثلاث: بشغل لا ينفد عناه، وأمل لا يبلغ منتهاه، وحرص لا يدرك مداه " وقال عيسى عليه السلام: الدنيا مزرعة لإبليس، وأهلها حراث له هـ. وقال عليّ رضي الله عنه: الدنيا كالحية: لَيِّن مسها، قاتل سمها، فكن أحذر ما تكونُ منها، أَسَرَّ ما تكون بها فإن من سكن منها إلى إيناس أزاله عنها إيحاش.

السابقالتالي
2