الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِيۤ ءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوكَ يُجَٰدِلُونَكَ يَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ }

عطف جملة ابتدائية على الجمل الابتدائية التي قبلها من قولهالذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون } الأنعام 20. والضمير المجرور بــ { من } التبعيضية عائد إلى المشركين الذين الحديث معهم وعنهم ابتداء من قولهثم الذين كفروا بربِّهم يعدلون } الأنعام 1، أي ومن المشركين من يستمع إليك. وقد انتقل الكلام إلى أحواللِ خاصّة عقلائهم الذين يربأون بأنفسهم عن أن يقابلوا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم بمثل ما يقابله به سفهاؤهم من الإعراض التامّ، وقولِهمقلوبنا في أكنّة ممّا تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب } فصلت 5. ولكن هؤلاء العقلاء يتظاهرون بالحلم والأناة والإنصاف ويخيّلون للدهماء أنّهم قادرون على مجادلة الرسول ـــ عليه الصلاة والسلام ـــ وإبطال حججه ثم ينهون الناس عن الإيمان. روى الواحدي عن ابن عبّاس أنّه سمّى من هؤلاء أبا سفيان بن حرب، وعتبة وشيبة ابني ربيعة، وأبا جهل، والوليد بن المغيرة، والنضر بن الحارث، وأمية وأبيّا ابني خلف، اجتمعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستمعون القرآن فلمّا سمعوه قالوا للنضر ما يقول محمد فقال والذي جعلها بيته يعني الكعبة ما أدري ما يقول إلاّ أنِّي أرى تحرّك شفتيه فما يقول إلاّ أساطير الأولين مثل ما كنت أحدّثكم عن القرون الماضية. يعني أنّه قال ذلك مكابرة منه للحقّ وحسداً للرسول ـــ عليه الصلاة والسلام ـــ. وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى. وكان يحدّث قريشاً عن أقاصيص العجم، مثل قصة رستم وإسفنديار فيستملحون حديثه، وكان صاحب أسفار إلى بلاد الفرس، وكان النضر شديد البغضاء للرسول صلى الله عليه وسلم وهو الذي أهدر الرسول ـــ عليه الصلاة والسلام ـــ دمه فقتل يوم فتح مكّة. وروي أنّ أبا سفيان قال لهم إنِّي لأراه حقّاً. فقال له أبو جهل كلاّ. فوصف الله حالهم بهذه الآية. وقد نفع الله أبا سفيان بن حرب بكلمته هذه، فأسلم هو دونهم ليلة فتح مكّة وثبتت له فضيلة الصحبة وصهر النبي صلى الله عليه وسلم ولزوجه هند بنت عتبة بن ربيعة. و { الأكنّة } جمع كنان ـــ بكسر الكاف ـــ وأفعلة يتعيّن في فِعال المكسور الفاء إذا كان عينه ولامه مثلين. والكنان الغطاء، لأنّه يكنّ الشيء، أي يستره. وهي هنا تخييل لأنّه شبَّهت قلوبهم في عدم خلوص الحقّ إليها بأشياء محجوبة عن شيء. وأثبتت لها الأكنّة تخييلاً، وليس في قلب أحدهم شيء يشبه الكنان. وأسند جعل تلك الحالة في قلوبهم إلى الله تعالى لأنّه خلقهم على هذه الخصلة الذميمة والتعقّل المنحرف، فهم لهم عقول وإدراك لأنّهم كسائر البشر، ولكن أهواءهم تخيّر لهم المنع من اتِّباع الحقّ، فلذلك كانوا مخاطبين بالإيمان مع أنّ الله يعلم أنّهم لا يؤمنون إذ كانوا على تلك الصفة، على أنّ خطاب التكليف عامّ لا تعيين فيه لأناس ولا استثناء فيه لأناس.

السابقالتالي
2 3