الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَحَاقَ بِهم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }

هذا استخلاص لموعظة المشركين بمَثَل عاد، ليعلموا أن الذي قدَر على إهلاك عاد قادر على إهلاك مَن هم دونهم في القوة والعدد، وليعلموا أن القوم كانوا مثلهم مستجمعين قوى العقل والحسّ وأنهم أهملوا الانتفاع بقواهم فجحدوا بآيات الله واستهزؤوا بها وبوعيده فحاق بهم ما كانوا يستهزئون به، وقريش يعلمون أن حالهم مثل الحال المحكيّة عن أولئك فليتهيّأوا لما سيحلّ بهم. ولإفادة هذا الاستخلاص غُيّر أسلوب الكلام إلى خطاب المشركين من أهل مكة، فالجملة في موضع الحال من واو الجماعة فيقالوا أجئتنا } الأحقاف 22 والخبر مستعمل في التعجيب من عدم انتفاعهم بمواهب عقولهم. وتأكيد هذا الخبر بلام القسم مع أن مفاده لا شك فيه مصروف إلى المبالغة في التعجيب. والتمكين إعطاء المَكِنة بفتح الميم وكسر الكاف وهي القدرة والقوة. يقال مكُن من كذا وتمكن منه، إذا قدر عليه. ويقال مكَّنه في كذا، إذا جعل له القدرة على مدخول حرف الظرفية فيفسر بما يليق بذلك الظرف قال تعالىمكنّاهم في الأرض ما لم نمكن لكم } في سورة الأنعام 6. فالمعنى جعلنا لهم القدرة في الذي لم نمكنكم فيه، أي من كل ما يمكّن فيه الأقوام والأمم، وتقدم عند قوله تعالىألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكَّنَّاهم في الأرض } في أول الأنعام 6 فضمّ إليه ما هنا. و ما من قوله فيما } موصولة. و { إن } نافية، أي في الذي ما مَكَّناكم فيه. ومعنى مكناكم فيه مكناكم في مثله أو في نوعه فإن الأجناس والأنواع من الذوات حقائق معنوية لا تتغير مواهبها وإنما تختلف بوجودها في الجزئيات، فلذلك حسن تعدية فعل { مكناكم } بحرف الظرفية إلى ضمير اسم الموصول الصادق على الأمور التي مُكنت منها عاد. ومن بديع النظم أن جاء النفي هنا بحرف { إنْ } النافية مع أنَّ النفي بها أقل استعمالا من النفي بــ ما النافية قصداً هنا لدفع الكراهة من توالي مثلين في النطق وهما ما الموصولة و ما النافية وإن كان معناهما مختلفاً، ألا ترى أن العرب عوضوا الهاء عن الألف في مهما، فإن أصلها ما ما مركبة من ما الظرفية و ما الزائدة لإفادة الشرط مثل أينما. قال في «الكشاف» ولقد أغَثَّ أبو الطيب في قوله
لعمرك مَا مَا بَان منك لِضَاربٍ   
وأقول ولم يتعقب ابن جنّي ولا غيره ممّن شرح الديوان من قبل على المتنبي وقد وقع مثله في ضرورات شعر المتقدمين كقول خطام المجاشعي
وَصَاليات كَكَمَا يُؤثفَيْنْ   
ولا يغتفر مثله للمولدين. فأما إذا كانت ما نافية وأراد المتكلم تأكيدها تأكيداً لفظياً، فالإتيان بحرف إنْ بعد ما أحرى كما في قول النابغة
رماد ككحل العين ما إنْ أبينُه ونؤيٌ كجذم الحوض أثلم خاشع   

السابقالتالي
2