الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِذْ جَعَلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ وَكَانُوۤاْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً }

ظرف متعلق بفعلصدوكم } الفتح 25 أي صدوكم صدًّا لا عذر لهم فيه ولا داعي إليه إلا حميةَ الجاهلية، وإلا فإن المؤمنين جاءوا مسالمين معظمين حُرمة الكعبة سائقين الهدايا لنفع أهل الحرم فليس من الرشد أن يمنعوا عن العمرة ولكن حمية الجاهلية غطّت على عقولهم فصمّموا على منع المسلمين، ثم آل النزاع بين الطائفتين إلى المصالحة على أن يرجع المسلمون هذا العام وعلى أن المشركين يمكنوهم من العمرة في القابل وأن العامين سواء عندهم ولكنهم أرادوا التشفي لما في قلوبهم من الإحن على المسلمين. فكان تعليق هذا الظرف بفعل { وصدوكم } مشعراً بتعليل الصَّد بكونه حمية الجاهلية ليفيد أن الحمية مُتَمَكنة منهم تظهر منها آثارها فمنها الصد عن المسجد الحرام. والحمية الأنفة، أي الاستنكاف من أمرٍ لأنه يراه غضاضة عليه وأكثر إطلاق ذلك على استكبار لا موجب له فإن كان لموجب فهو إباء الضيم. ولما كان صدهم الناس عن زيارة البيت بلا حق لأن البيت بيت الله لا بيتهم كان داعي المنع مجرد الحمية قال تعالىوما كانوا أولياءه } الأنفال 34. و { جعل } بمعنى وضع، كقول الحريري في المقامة الأخيرة «اجعل الموت نصب عينك»، وقول الشاعر
وإثمد يجعل في العين   
وضمير { جعل } يجوز أن يكون عائداً إلى اسم الجلالة في قولهليدخل الله في رحمته } الفتح 25 من قولهلعذبنا الذين كفروا } الفتح 25 والعدول عن ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة التفات. و { الذين كفروا } مفعول أول لــ { جعل }. و { الحمية } بدل اشتمال من { الذين كفروا } ، و { في قلوبهم } في محل المفعول الثاني لـ { جعل } ، أي تخلّقُوا بالحمية فهي دافعة بهم إلى أفعالهم لا يراعون مصلحة ولا مفسدة فكذلك حين صدّوكم عن المسجد الحرام. و { في قلوبهم } متعلق بــ { جعل } ، أي وضع الحمية في قلوبهم. وقوله { حمية الجاهلية } عطف بيان للحمية قُصد من إجماله ثم تفصيله تقريرُ مدلوله وتأكيده مَا يحصل لو قال { إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم حميةَ الجاهلية }. وإضافة الحمية إلى الجاهلية لقصد تحقيرها وتشنيعها فإنها من خلق أهل الجاهلية فإن ذلك انتساب ذم في اصطلاح القرآن كقولهيظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية } آل عمران 154 وقولهأفحكم الجاهلية يبغون } المائدة 50. ويعكس ذلك إضافة السكينة إلى ضمير الله تعالى إضافة تشريف لأن السكينة من الأخلاق الفاضلة فهي موهبة إلهٰية. وتفريع { فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } ، على { إذ جعل الذين كفروا } ، يؤذن بأن المؤمنين ودُّوا أن يقاتلوا المشركين وأن يدخُلوا مكة للعمرة عنوة غضباً من صدّهم عنها ولكن الله أنزل عليهم السكينة. والمراد بالسكينة الثبات والأناة، أي جعل في قلوبهم التأنّي وصرف عنهم العجْلة، فعصمهم من مقابلة الحَمِية بالغضب والانتقاممِ فقابلوا الحمية بالتعقل والتثبت فكان في ذلك خير كثير.

السابقالتالي
2 3