الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءْيَا بِٱلْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً }

قال قتادة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنه يدخل مكة على هذه الصفة فلما صالح قريشاً بالحُدَيْبِيَة ارتاب المنافقون حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه يدخل مكة فأنزل الله تعالى: { لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّؤْيَا بِٱلْحَقِّ } فأعلمهم أنهم سيدخلون في غير ذلك العام، وأن رؤياه صلى الله عليه وسلم حق. وقيل: إن أبا بكر هو الذي قال إن المنام لم يكن مؤقتاً بوقت، وأنه سيدخل. وروي أن الرؤيا كانت بالحديبية، وأنّ رؤيا الأنبياء حق. والرؤيا أحد وجوه الوحي إلى الأنبياء. { لَتَدْخُلُنَّ } أي في العام القابل { ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ } قال ٱبن كيسان: إنه حكاية ما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم في منامه خوطب في منامه بما جرت به العادة فأخبر الله عن رسوله أنه قال ذلك ولهذا استثنى تأدّب بأدب الله تعالى حيث قال تعالى:وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } [الكهف:23]. وقيل: خاطب الله العباد بما يحب أن يقولوه، كما قال: «وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ». وقيل: استثنى فيما يعلم ليستثني الخلق فيما لا يعلمون، قاله ثعلب. وقيل: كان الله علم أنه يميت بعض هؤلاء الذين كانوا معه بالحديبية فوقع الاستثناء لهذا المعنى، قاله الحسين بن الفضل. وقيل: الاستثناء من «آمِنِينَ»، وذلك راجع إلى مخاطبة العباد على ما جرت به العادة. وقيل: معنى «إِنْ شَاءَ اللَّهُ» إن أمركم الله بالدخول. وقيل: أي إن سهل الله. وقيل: «إِنْ شَاءَ اللَّهُ» أي كما شَاء الله. وقال أبو عبيدة: «إِنْ» بمعنى «إذ» أي إذ شاء الله، كقوله تعالى:ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [البقرة: 278] أي إذ كنتم. وفيه بعد، لأن «إذ» في الماضي من الفعل، و «إذا» في المستقبل، وهذا الدخول في المستقبل، فوعدهم دخول المسجد الحرام وعلّقه بشرط المشيئة، وذلك عام الحديبية فأخبر أصحابه بذلك فاستبشروا ثم تأخر ذلك عن العام الذي طمعوا فيه فساءهم ذلك واشتدّ عليهم وصالحهم ورجع ثم أذن الله في العام المقبل فأنزل الله: { لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّؤْيَا بِٱلْحَقِّ }. وإنما قيل له في المنام: { لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ } فحكى في التنزيل ما قيل له في المنام فليس هنا شك كما زعم بعضهم أن الاستثناء يدل على الشك، والله تعالى لا يشك، و «لَتَدْخُلُنَّ» تحقيق فكيف يكون شك. فـ «ـإن» بمعنى «إذا». { آمِنِينَ } أي من العدوّ. { مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ } والتحليق والتقصير جميعاً للرجال، ولذلك غلب المذكر على المؤنث. والحلق أفضل، وليس للنساء إلا التقصير.

السابقالتالي
2