الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ رِضْوَانِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }

فيه أربع مسائل: الأولى قوله تعالى: { ثُمَّ قَفَّيْنَا } أي أتبعنا { عَلَىٰ آثَارِهِم } أي على آثار الذرية. وقيل: على آثار نوح وإبراهيم { بِرُسُلِنَا } موسى وإلياس وداود وسليمان ويونس وغيرهم { وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ } فهو من ذرية إبراهيم من جهة أمه { وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ } وهو الكتاب المنزل عليه. وتقدّم ٱشتقاقه في أوّل سورة «آل عمران». الثانية: قوله تعالى: { وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ } على دينه يعني الحواريين وأتباعهم { رَأْفَةً وَرَحْمَةً } أي مودّة فكان يواد بَعضهم بعضاً. وقيل: هذا إشارة إلى أنهم أمروا في الإنجيل بالصلح وترك إيذاء الناس وألان الله قلوبهم لذلك، بخلاف اليهود الذين قست قلوبهم وحرّفوا الكلِم عن مواضعه. والرأفة اللين، والرحمة الشفقة. وقيل: الرأفة تخفيف الْكَلِّ، والرحمة تحمُّل الثقل. وقيل: الرأفة أشد الرحمة. وتم الكلام. ثم قال: { وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا } أي من قِبل أنفسهم. والأحسن أن تكون الرهبانية منصوبة بإضمار فعل قال أبو علي: وٱبتدعوها رهبانية ٱبتدعوها. وقال الزجاج: أي ٱبتدعوها رهبانية كما تقول رأيت زيداً وعمراً كلّمت. وقيل: إنه معطوف على الرأفة والرحمة والمعنى على هذا أن الله تعالى أعطاهم إياها فغيّروا وٱبتدعوا فيها. قال الماوردي: وفيها قراءتان إحداهما بفتح الراء وهي الخوف من الرَّهب. الثانية بضم الراء وهي منسوبة إلى الرُّهبان كالرُّضْوانية من الرُّضْوان وذلك لأنهم حملوا أنفسهم على المشقات في الامتناع من المطعم والمشرب والنكاح والتعلق بالكهوف والصوامع وذلك أن ملوكهم غيّروا وبَدّلوا وبقي نفر قليل فترهّبوا وتبتّلوا. قال الضحاك: إن ملوكاً بعد عيسى عليه السلام ٱرتكبوا المحارم ثلاثمائة سنة، فأنكرها عليهم من كان بقي على منهاج عيسى فقتلوهم، فقال قوم بقوا بعدهم: نحن إذا نهيناهم قتلونا فليس يسعنا المقام بينهم، فٱعتزلوا الناس وٱتخذوا الصوامع. وقال قتادة: الرهبانية التي ٱبتدعوها رفض النساء وٱتخاذ الصوامع. وفي خبر مرفوع: " هي لحوقهم بالبراري والجبال " { مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } أي ما فرضناها عليهم ولا أمرناهم بها قاله ٱبن زيد. وقوله تعالى: { إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ رِضْوَانِ ٱللَّهِ } أي ما أمرناهم إلا بما يرضي الله قاله ٱبن مسلم. وقال الزجاج: { مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } معناه لم نكتب عليهم شيئاً البَتّة. ويكون { ٱبْتِغَآءَ رِضْوَانِ ٱللَّهِ } بدلاً من الهاء والألف في «كَتَبْنَاهَا» والمعنى: ما كتبناها عليهم إلا ٱبتغاء رضوان الله. وقيل: { إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ } الاستثناء منقطع، والتقدير ما كتبناها عليهم لكن ٱبتدعوها ٱبتغاء رضوان الله. { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } أي فما قاموا بها حق القيام. وهذا خصوص لأن الذين لم يرعوها بعض القوم، وإنما تسببوا بالترهب إلى طلب الرياسة على الناس وأكل أموالهم كما قال تعالى:يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلأَحْبَارِ وَٱلرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ }

السابقالتالي
2 3