الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ رِضْوَانِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }

قوله: { ٱلإِنجِيلَ }: قد تقدَّم أنَّ الحسنَ قرأه بفتح الهمزة في أول آل عمران. قال الزمخشري: " أَمْرُه أهونُ/ مِنْ أَمْرِ البِرْطيل والسِّكِّين فيمن رَواهما بفتح الفاء لأنَّ الكلمةَ أعجمية لا يلزَمُ فيها حِفْظُ أبنية العرب ". وقال أبو الفتح: " هو مثالٌ لا نظيرَ له ".

قوله: { وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا } في انتصابِها وجهان، أحدهما: أنها معطوفةٌ على " رأْفَةً ورحمةً ". و " جَعَلَ " إمَّا بمعنى خَلق أو بمعنى صيَّر، و " ابْتدعوها " على هذا صفةٌ لـ " رَهْبانية " وإنما خُصَّتْ بذِكر الابتداعِ لأنَّ الرأَفةَ والرحمةَ في القلب أمرُ غريزةٍ لا تَكَسُّبَ للإِنسانِ فيها بخلافِ الرهبانية فإنها أفعالُ البدن، وللإِنسانِ فيها تكسُّبٌ. إلاَّ أنَّ أبا البقاء منعَ هذا الوجهَ بأنَّ ما جعله اللَّهُ لا يَبْتدعونه. وجوابُه ما تَقَدَّم: مِنْ أنَّه لَمَّا كانت مكتسبةً صَحَّ ذلك فيها. وقال أيضاً: " وقيل: هو معطوفٌ عليها، وابتدعوها نعتٌ له. والمعنى: فَرَضَ عليهم لزومَ رهبانيةٍ ابتدعوها، ولهذا قال: { مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ رِضْوَانِ ٱللَّهِ }.

والوجه الثاني: أنه منصوبةٌ بفعلٍ مقدرٍ يُفَسِّره الظاهرُ وتكون المسألةُ من الاشتغالِ. وإليه نحا الفارسيُّ والزمخشريُّ وأبو البقاء وجماعةٌ إلاَّ أنَّ هذا يقولون إنه إعرابُ المعتزلة؛ وذلك أنَّهم يقولون: ما كانَ مِنْ فِعْلِ الإِنسانِ فهو مخلوقٌ له، فالرحمةُ والرأفة لَمَّا كانتْ من فِعْلِ اللَّهِ تعالى نَسَبَ خَلْقَهما إليه. والرَّهْبانِيَّة لَمَّا لم تكنْ من فِعْلِ اللَّهِ تعالى بل مِنْ فعل العبدِ يَسْتَقِلُّ بفعلِها نَسَب ابتداعَها إليه، وللردِّ عليهم موضعٌ آخرُ هو أليقُ به من هذا الموضعِ، وسأبِّينُه إنْ شاء الله في " الأحكام ".

ورَدَّ الشيخُ عليهم هذا الإِعرابَ من حيث الصناعةُ وذلك أنَّه مِنْ حَقِّ اسمِ المُشْتَغَلِ عنه أن يَصْلُح للرفع بالابتداءِ و " رهبانيةً " نكرةٌ لا مُسَوِّغ للابتداء بها، فلا يصلُحُ نصبُها على الاشتغال. وفيه نظرٌ؛ لأنَّا لا نُسَلِّمُ أولاً اشتراطَ ذلك، ويَدُلُّ عليه قراءةُ مَنْ قرأ " سورةً أنزَلْناها " بالنصب على الاشتغالِ كما قَدَّمْتُ تحقيقه في موضعه. ولئِنْ سَلَّمْنا ذلك فثَمَّ مُسَوِّغٌ وهو العطفُ. ومِنْ ذلك قولُه:
4235ـ عندي اصْطِبارٌ وشكْوى عند قاتلتي   فهل بأعجبَ مِنْ هذا امرؤٌ سَمِعا
وقوله:
4236ـ تَعَشَّى ونجمٌ قد أضاء فَمُذْ بدا   مُحَيَّاكَ أَخْفَى ضوْءُه كلَّ شارقِ
ذكر ذلك الشيخُ جمال الدين بن مالك. و قرأ الحسن " رَآفة " بزنة فَعالة. والرَّهْبانيةُ منسوبةٌ إلى الرَهْبان فهو فَعْلان مِنْ رَهِب كقولِهم: " الخَشْيان " مِنْ خَشِي. وقد تقدَّم معنى هذه المادةِ في المائدة مستوفى وقُرِىء بضمِّ الراء. قال الزمخشري: " كأنَّها نِسْبةُ إلى الرُّهْبان وهو جمعُ راهبٍ كراكبِ ورُكْبان ".

السابقالتالي
2