الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِينَ كَسَبُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ ٱلْلَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

عطف على جملةللذين أحسنوا الحسنى } يونس 26. وعبر في جانب المسيئين بفعل { كسبوا السيئات } دون فعل أساءوا الذي عبر به في جانب الذين أحسنوا للإشارة إلى أن إساءتهم من فِعلهم وسعيهم فما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون. والموصول مراد به خصوص المشركين لقوله بعده { أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }. فإن الخلود في النار لا يقع إلا للكافرين، كما دلت عليه الأدلة المتظافرة خلافاً للمعتزلة والخوارج. وجملة { جزاءُ سيئة بمثلها } خبر عن { الذين كسبوا السيئات }. وتنكير سيئة للعموم، أي جزاء كل سيئة بمثلها، وهو وإن كان في سياق الإثبات فالعموم مستفاد من المقام وهو مقام عموم المبتدأ. كقول الحريري
يا أهلَ ذا المغنَى وُقيتم ضُرا   
أي كل ضر. وذلك العموم مُغن عن الرابط بين الجملة الخبرية والمبتدأ، أو يقدر مجرور، أي جَزاء سيئةٍ منهم، كما قدر في قوله تعالىفمن كان منكم مريضاً أو به أذًى من رأسه ففدية من صيام } البقرة 196 أي فعليه. واقتصر على الذلة لهم دون زيادة ويَرهقهم قَتر، لأنه سيجيء ما هو أشد منه وهو قوله { كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً }. وجملة { ما لهم من الله من عاصم } خبر ثان، أو حال من { الذين كسبوا السيئات } أو معترضة. وهو تهديد وتأييس. والعاصم المانع والحافظ. ومعنى { من الله } من انتقامه وجزائه. وهذا من تعليق الفعل باسم الذات، والمرادُ بعض أحوال الذات مما يدل عليه السياق مثلحُرمت عليكم الميتة } المائدة 3. وجملة { كأنما أغشيت وجوهُهم } الخ بيان لجملة { ترهقهم ذلة } بيانَ تمثيل، أو حالٌ من الضمير في قوله { وترهقهم }. و { أغشيت } معدَّى غَشِي إذا أحاط وغَطا، فصار بالهمزة معدى إلى مفعولين من باب كسَا. وتقدم في قوله تعالىيُغشي الليلَ النهارَ } في الأعراف 54، وقولهإذ يُغْشِيكُم النعاس } في الأنفال 11. والقِطع بفتح الطاء في قراءة الجمهور جمع قِطعة، وهي الجزء من الشيء، سمي قطعة لأنه يُقتطع من كل غالباً، فهي فعْلة بمعنى مفعولة نقلت إلى الاسمية. وقرأه ابن كثير والكسائي ويعقوب { قِطْعاً } بسكون الطاء. وهو اسم للجزء من زمن الليل المظلم، قال تعالىفاسر بأهلك بقِطْع من الليل } هود 81. وقوله { مظلماً } حال من الليل. ووصف الليل وهو زمن الظلمة بكونه مظلماً لإفادة تمكن الوصف منه كقولهم ليل أليل، وظل ظليل، وشعر شاعر، فالمراد من الليل الشديد الإظلام باحتجاب نجومه وتمكّن ظلمته. وشُبهت قَترة وجوههم بظلام الليل. وجملة { أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } هي كجملةأولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } يونس 26