الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ) مصنف و مدقق


{ إِن تُبْدُواْ ٱلصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا ٱلْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }

هذا حكم آخر من أحكام الصدقات يشعر بالحاجة إليه المخلصون الذين يتحامون الرياء والفخر في الإنفاق. وما كلّ مظهر للعمل الصالح مرائياً به ولكن كلّ مخف له بعيد عن الرياء. ولذلك قال تعالى: { إِن تُبْدُواْ ٱلصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ } أي فنعم شيئاّ إبداؤها. وأصلها نعم ما هي. قرأ ابن كثير وورش وحفص (نعما) بكسر النون والعين وهي لغة هذيل. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح النون وكسر العين على الأصل. وقرأ أبو عمرو وقالون وأبو بكر بكسر النون وإخفاء حركة العين (اختلاسها) في رواية وإسكانها في أخرى، والأولى أقيس وحكيت الثانية لغة - قال { وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا ٱلْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } أي إنّ إعطاءها للفقراء في الخفية والسرّ أفضل من الإبداء، لما في الإخفاء من البعد عن شبهة الرياء ومثاره، ومن إكرام الفقير وتحامي إظهار فقره وحاجته، وقيل: خير لكم من الخيور وليس بمعنى التفضيل ويؤيد الأول زيادة الجزاء بقوله: { وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ } أي ويمحو عنكم بعض سيئاتكم. قرأ ابن عامر وعاصم في رواية حفص (ويكفّر) بالياء أي الله تعالى. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية ابن عيّاش ويعقوب (ونكفّر) بالنون مرفوعاً أي ونحن نكفّر. وقرأ حمزة والكسائي (ونكفّر) بالنون مجزوماً بالعطف على محلّ الفاء - ثمّ قال: { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي لا تخفى عليه نيّاتكم في الإبداء والإخفاء. فإنّ الخبير هو العالم بدقائق الأمور.

بقي في الآية مبحثان: أحدهما: أنّ بعض المفسّرين قال: إنّ الصدقات في الآية عامّة تشمل الزكاة المفروضة والتطوّع. فإخفاء كلّ فريضة خير من إبدائها. وقال الأكثرون إنّها خاصّة بالتطوّع لأنّ الفرائض لا رياء فيها وهي شعائر لا ينبغي إخفاؤها وهو الذي اختاره الأستاذ الإمام قال إنّ إبداء الفريضة إشهار لشعيرة من شعائر الإسلام لو أخفيت لتوهّم منعها وذلك يؤثر في المتوهم فيسهل عليه المنع لما للقدوة وحال البيئة من التأثير. ولا محلّ للرياء في الفرائض والشعائر لأنّ من شأنها أن تكون عامّة ولأنّ المرائي بها لا يكون مصدّقاً بفرضيتها ومن كان كذلك فهو كافر. أقول: فإذا انقلبت الحال فصار المؤدّى للفريضة نادراً لا يكاد يعرف فإذا عرف أشير إليه بالبنان فهل يصير الأفضل له إخفاؤها؟ الظاهر أنّ الإظهار في هذه الحالة يكون آكد لأنّ ظهور الإسلام وقوّته بإظهار شعائره وفرائضه ولمكان القدوة بل قال بعض العلماء إنّ الإظهار أفضل لمن يرجو اقتداء الناس به في صدقته وإن كانت تطوّعاً، لأنّ نفعها حينئذ يكون متعدّياً وهو أفضل من النفع القاصر بلا نزاع. فعلى هذا تكون الخيرية في الآية خاصّة بصدقتين متساويتين في الفائدة إحداهما خفية والأخرى جلية.

السابقالتالي
2 3