الرئيسية - التفاسير


* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ) مصنف و مدقق


{ للَّهِ ما فِي ٱلسَّمَٰوٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ ٱللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

قوله { للَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأرْضِ } قد تقدّم تفسيره. قوله { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ } إلى آخر الآية، ظاهره أن الله يحاسب العباد على ما أضمرته أنفسهم، أو أظهرته من الأمور التي يحاسب عليها، فيغفر لمن يشاء منهم ما يغفره منها، ويعذب من يشاء منهم بما أسرَّ، أو أظهر منها، هذا معنى الآية على مقتضى اللغة العربية. وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية على أقوال الأول أنها، وإن كانت عامة، فهي مخصوصة بكتمان الشهادة، وأن الكاتم للشهادة يحاسب على كتمه، سواء أظهر للناس أنه كاتم للشهادة، أو لم يظهر. وقد روى هذا عن ابن عباس، وعكرمة، والشعبي ومجاهد، وهو مردود بما في الآية من عموم اللفظ، ولا يصلح ما تقدم قبل هذه الآية من النهي عن كتم الشهادة أن تكون مختصة به. والقول الثاني أن ما في الآية مختص بما يطرأ على النفوس من الأمور التي هي بين الشك، واليقين، قاله مجاهد، وهو أيضاً تخصيص بلا مخصِّص. والقول الثالث أنها محكمة عامة، ولكن العذاب على ما في النفس يختص بالكفار، والمنافقين. حكاه الطبري عن قوم، وهو أيضاً تخصيص بلا مخصِّص، فإن قوله { يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء } لا يختص ببعض معين إلا بدليل. والقول الرابع أن هذه الآية منسوخة، قاله ابن مسعود، وعائشة، وأبو هريرة، والشعبي، وعطاء، ومحمد بن سيرين، ومحمد بن كعب، وموسى بن عبيدة، وهو مرويّ، عن ابن عباس، وجماعة من الصحابة، والتابعين، وهذا هو الحق لما سيأتي من التصريح بنسخها، ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله غفر لهذه الأمة ما حدثت به أنفسها " قوله { يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ } قدم الجار، والمجرور على الفاعل لإظهار العناية به، وقدم الإبداء على الإخفاء لأن الأصل في الأمور التي يحاسب عليها هو الأعمال البادية، وأما تقديم الإخفاء في قوله سبحانهقُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ } آل عمران 29 فلكون العلم يتعلق بالأعمال الخافية، والبادية على السوية. وقدم المغفرة على التعذيب لكون رحمته سبقت غضبه، وجملة قوله { فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء } مستأنفة، أي فهو يغفر، وهي متضمنة لتفصيل ما أجمل في قوله { يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ } وهذا على قراءة ابن عامر، وعاصم. وأما على قراءة ابن كثير، ونافع، وأبي عمرو، وحمزة، والكسائي بجزم الراء، والباء، فالفاء عاطفة لما بعدها على المجزوم قبلها، وهو جواب الشرط، أعني قوله { يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ }. وقرأ ابن عباس، والأعرج، وأبو العالية، وعاصم الجحدري بنصب الراء، والباء في قوله { فَيَغْفِرُ } { وَيُعَذّبَ } على إضمار أن عطفاً على المعنى.

السابقالتالي
2