الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ للَّهِ ما فِي ٱلسَّمَٰوٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ ٱللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

في كيفية النَّظم وجوه:

الأول: قال الأَصمّ: إنه تعالى لمَّا جمع في هذه السُّورة أشياءَ كثيرةً مِنْ علم الأُصُول: من دلائل التَّوحيدِ، والنُّبوةِ، والمعادِ، وبيان الشَّرائِع، والتكاليف؛ كالصلاةِ والزكاةِ، والصومِ، والحجِّ، والقِصَاصِ، والجهادِ، والحيضِ، والطَّلاَقِ، والعِدَّةِ، والصَّدَاقِ، والخُلعِ، والإِيلاءِ، والرَّضَاعةِ، والبيع، والرِّبَا، وكيفيَّةِ المُداينةِ - ختم هذه السورة بهذه الآية على سبيل التَّهديد.

قال ابن الخطيب: لمَّا كان أكملُ الصفاتِ هو العلم والقدرة عبَّرَ عن كمالِ قُدْرته بقول { للَّهِ ما فِي ٱلسَّمَٰواتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } مِلكاً ومُلْكاً، وعبَّرَ عن كمال علمه، وإِحاطته بالكُلِّيَّاتِ، والجُزْئِيَّاتِ بقوله: { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ ٱللهُ } ، وإذا اختصَّ بكمال العلم، والقُدرة، فكل من في السموات والأرض عبيدٌ مربوبون له، وجدوا بتخليقه، وتكوينه، وهذا غاية الوعدِ للمطيعين، ونهايةُ الوعيد للمذنبين، ولهذا ختم السورة بهذه.

الثاني: قال أبو مسلم: إنه تعالى لمَّا نزَّل في آخر الآية المتقدِّمة: " إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عليمٌ " ، ذكر عقيبهُ ما يجرِي مجرى الدليل العقلي فقال: { للَّهِ ما فِي ٱلسَّمَٰواتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } ومعنى هذا الملك أَنَّ هذه الأشياء لمَّا كانت محدثةً، فقد وجدت بتكوينه؛ وإبداعه، ومن أتقن هذه الأفعال العجيبة الغريبة المشتمِلة على الحِكم المُتكاثرة؛ والمنافع العظيمة، فلا شَكَّ أَنَّ ذلك مِنْ أعظم الأَدِلَّة على كونه عالماً مُحيطاً بأجزائها.

الثالث: قال القاضي: إنه تعالى لمَّا أمر بهذه الوثائِق - أعني الكتابة، والإِشهادَ، والرهنَ، وكان المقصودُ من الأَمر بها صيانة الأَموالِ، والاحتياط في حفظها - بيَّن تعالى أن المقصودَ من ذلك إنما يرجع لمنفعة الخلقِ، لا لمنفعةٍ تعُودُ إليه سبحانه، فإنَّ له مُلْكَ السَّموات، والأَرضِ.

الرابع: قال الشعبيُّ، وعكرمةُ، ومجاهدٌ: إنه تعالى لما نهى عن كِتمان الشهادة، وأَوعد عليه، بيَّن أَنَّ له مُلك السمواتِ، والأَرضِ؛ فيجازِي على الكِتْمانِ، والإِظهارِ.

فصلٌ في بيان سبب النُّزُول

قال مقاتلٌ: نزلت فيمن يتولَّى الكافرين من المؤمنين، يعني: وإن تُعْلِنُوا ما في أَنفُسِكُم من ولاية الكُفَّار، أو تُسِّروه، يُحَاسِبكُم به الله، كما ذكر في سورة آل عمرانلاَّ يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ } [آل عمران:28]، إلى أن قال:قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ ٱللهُ } [آل عمران:29].

وذهب الأَكثرُون إلى أنَّها عامَّةٌ.

فصلٌ

رُوِي عن ابن عبَّاسٍ؛ أنه قال: لمَّا نزلت هذه الآية، " جاء أبو بكرٍ وعمرُ، وعبدُ الرَّحمن بن عوف، ومعاذ، وناسٌ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثم بركُوا على الرَّكبِ، فقالوا: يا رسُول اللهِ، كُلِّفنا من الأَعمالِ ما نُطيقُ؛ الصلاةُ، والصِّيامُ، والجِهَادُ، والصَّدَقَةُ، وقد أُنزِلت عليك هذه الآيةُ ولا نُطِيقُهَا، إنَّ أَحدنا ليُحدِّثُ نفسهُ بما لا يحبّ أن يثبتَ في قلبهِ وإنَّ له الدُّنيا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْل الكِتابينِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ بل قولوا: " سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ "

السابقالتالي
2 3 4 5 6