الرئيسية - التفاسير


* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق


{ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ ٱلسَّمَآءُ وَٱلأَرْضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ }

قوله تعالى: { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ ٱلسَّمَآءُ وَٱلأَرْضُ } أي لكفرهم. { وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ } أي مؤخرين بالغرق. وكانت العرب تقول عند موت السيد منهم: بكت له السماء والأرض أي عمّت مصيبته الأشياء حتى بكته السماء والأرض والريح والبرق، وبكته الليالي الشاتيات. قال الشاعر:
فالريح تبكي شَجْوَهَا   والبرق يلمع في الغمامة
وقال آخر:
والشمسُ طالعةٌ ليست بكاسفة   تُبكِي عليك نجومَ الليل والقمرا
وقالت الخارجية:
أيا شجر الخابور ما لك مُورِقاً   كأنك لم تجزع على ٱبن طَرِيف
وذلك على سبيل التمثيل والتخييل مبالغةً في وجوب الجزع والبكاء عليه. والمعنى أنهم هلكوا فلم تعظم مصيبتهم ولم يوجد لهم فَقْد. وقيل: في الكلام إضمار، أي ما بكى عليهم أهل السماء والأرض من الملائكة كقوله تعالى:وَٱسْأَلِ ٱلْقَرْيَةَ } [يوسف: 82] بل سرّوا بهلاكهم، قاله الحسن. وروى يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من مؤمن إلا وله في السماء بابان باب ينزل منه رزقه وباب يدخل منه كلامه وعمله فإذا مات فقداه فبكيا عليه ـ ثم تلا ـ { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ ٱلسَّمَآءُ وَٱلأَرْضُ } " يعني أنهم لم يعملوا على الأرض عملاً صالحاً تبكي عليهم لأجله، ولا صعِد لهم إلى السماء عمل صالح فتبكي فَقْدَ ذلك. وقال مجاهد: إن السماء والأرض يبكيان على المؤمن أربعين صباحاً. قال أبو يحيى: فعجبت من قوله فقال: أتعجب! وما للأرض لا تبكي على عبد يَعْمُرها بالركوع والسجود! وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتسبيحه وتكبيره فيها دَوِيّ كدوِيّ النحل!. وقال عليّ وابن عباس رضي الله عنهما: إنه يبكي عليه مُصَلاّه من الأرض ومصعد عمله من السماء. وتقدير الآية على هذا: فما بكت عليهم مصاعد عملهم من السماء ولا مواضع عبادتهم من الأرض. وهو معنى قول سعيد بن جُبير. وفي بكاء السماء والأرض ثلاثة أوجه: أحدها أنه كالمعروف من بكاء الحيوان. ويشبه أن يكون قول مجاهد. وقال شُريح الحضرمي قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: " «إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء يوم القيامة» ـ قيل: من هم يا رسول الله؟ قال ـ«هم الذين إذا فسد الناس صَلَحُوا» ـ ثم قال ـ «ألا لا غُرْبة على مؤمن وما مات مؤمن في غُربة غائباً عنه بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض» ـ ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَاْلأَرْض } ـ ثم قال ـ« ألا إنهما لا يبكيان على الكافر» ". قلت: وذكر أبو نعيم محمد بن معمر قال: حدثنا أبو شعيب الحرّاني قال حدثنا يحيى بن عبد الله قال حدثنا الأوزاعيّ قال حدثني عطاء الخراساني قال: ما من عبد يسجد للّه سجدة في بقعة من بقاع الأرض إلا شهدت له يوم القيامة وبكت عليه يوم يموت.

السابقالتالي
2