الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوۤاْ آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ }

عقب الإمعان في تهديد المشركين وتجهيلهم على إعراضهم عن التدبر بحكمة الجزاء ويوم الحساب عليه والاحتجاج عليهم، أعرض الله عن خطابهم ووجّه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالثناء على الكتاب المنزل عليه، وكان هذا القرآن قد بيّن لهم ما فيه لهم مقنع، وحجاجاً هو لشبهاتهم مقلع، وأنه إن حَرَم المشركون أنفسهم من الانتفاع به فقد انتفع به أولو الألباب وهم المؤمنون. وفي ذلك إدماجُ الاعتزاز بهذا الكتاب لمن أنزل عليه ولمن تمسك به واهتدى بهديه من المؤمنين. وهذا نظير قوله تعالى عقب ذكر خلق الشمس والقمرمَا خَلَقَ الله ذٰلِكَ إلاَّ بالحَقِّ يُفَصِّلُ الآياتِ لِقَومٍ يَعْلَمُون } في أول سورة يونس 5. والجملة استئناف معتَرضٍ وفي هذا الاستئناف نظر إلى قوله في أول السورةوالقُرآنِ ذي الذِكرِ } ص 1 إعادة للتنويه بشأن القرآن كما سيعاد ذلك في قوله تعالىهذا ذكر } ص 49. فقوله { كِتابٌ } يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، والتقدير هذا كتاب، وجملة { أنزلناهُ } صفة { كِتابٌ }. ويجوز أن يكون مبتدأ وجملة { أنزلناهُ } صفة { كِتاب } و { مُبارَكٌ } خبراً عن { كِتابٌ }.وتنكير كِتابٌ للتعظيم، لأن الكتاب معلوم فما كان تنكيره إلا لتعظيم شأنه وهو مبتدأ سوغ الابتداء به وصفه بجملة { أنزلناهُ } و { مُبارَكٌ } هو الخبر. ولك أن تجعل ما في التنكير من معنى التعظيم مسوغاً للابتداء وتجعل جملة { أنزلناهُ } خبراً أول و { مُبارَكٌ } خبراً ثانياً و { لِيدَّبَّرُوا } متعلق بــــ { أنزلناهُ } ولكن لا يجعل { كِتابٌ } خبر مبتدأ محذوف وتقدره هذا كتاب، إذ ليس هذا بمحَزّ كبير من البلاغة.والمبارك المُنبَثّة فيه البركة وهي الخير الكثير، وكل آيات القرآن مبارك فيها لأنها إمّا مرشدة إلى خير، وَإمّا صارفة عن شرّ وفساد، وذلك سبب الخير في العاجل والآجل ولا بركة أعظم من ذلك.والتدبر التفكر والتأمل الذي يبلغ به صاحبه معرفة المراد من المعاني، وإنما يكون ذلك في كلام قليل اللفظ كثير المعاني التي أودعت فيه بحيث كلما ازداد المتدبر تدبراً انكشفت له معان لم تكن بادية له بادىء النظر. وأقربُ مثل للتدبر هنا هو ما مر آنفاً من معاني قوله تعالىوما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً } ص 27 إلى قولهأم نجعل المتقين كالفجار } ص 28، وتقدم عند قوله تعالىأفلا يتدبرون القرآن } في سورة النساء 82.وقرأ الجمهور { ليَدَّبَّرُوَا } بياء الغيبة وتشديد الدال. وأصل «يدبروا» يتدبروا، فقلبت التاء دالاً لقرب مخرجيهما ليتأتى الإِدغام لتخفيفه وهو صيغة تكلف مشتقة من فعل دَبَرَ بوزن ضرب، إذا تبع، فتدبَّره بمنزلة تتبَّعه، ومعناه أنه يتعقب ظواهر الألفاظ ليعلم ما يَدْبر ظواهرها من المعاني المكنونة والتأويلات اللائقة، وتقدم عند قوله تعالىأفلم يدبروا القول } في سورة المؤمنين 68. وقرأ أبو جعفر { لتَدَبروا } بتاء الخطاب وتخفيف الدال وأصلها لتتدبروا فحذفت إحدى التاءين اختصاراً، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين.

السابقالتالي
2