الرئيسية - التفاسير


* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ) مصنف و مدقق


{ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوۤاْ آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ }

الكتاب هو القرآن، والمبارك هو الشيء الذي يعطي من الفائدة والخير فوق ما يُتصوَّر منه، تقول: هذا الشيء نأخذ منه ولا ينقص، نسميه مبروك كرجل يعيش على راتب محدود، ومع ذلك تراه يُربِّي أولاده أحسن تربية ويعيش بين الناس عيشة الأغنياء، فيقولون: إنه رجل مبارك، وأن الله يبارك في راتبه القليل فيصير كثيراً، لكن كيف يبارك الله في القليل؟ قالوا: ينزل على القليل، القناعة أولاً فيرضى صاحبها، ثم يسلب المصارف فلا ينفق منها إلاَّ في المفيد، الناس يظنون أنَّ الرزق هو المال، ولا يدرون أن سَلْبَ المصارف لونٌ من ألوان الرزق، وقلنا: إن الرزق رزقُ إيجابٍ بأنْ يزيد الدَّخْل، ورزقُ سَلْب بأنْ تقلَّ المصارف. ومثَّلْنا لذلك بالرجل يعيش من الحلال، وحين يمرض ولده مثلاً يكفيه كوبٌ من الشاي وقرص أسبرين، أما الذي يعيش من الحرام ويكثُر المال في يده حين يمرض ولده لا بُدَّ أنْ يذهبَ به إلى أفضل الأطباء، وينفق على شفائه أضعاف ما يُنفق الأول. والقرآن مباركٌ، وآياته مباركة من حيث الأحكام الظاهرية، لأنه سيربي النفس على استقامة، هذه الاستقامة لو نظرتَ إليها اقتصادياً تجد أنها لا تُكلِّفك شيئاً، نعم الاستقامة لا تكلفك، أمَّا الانحراف فهو الذي يُكلِّف، لذلك قال صلى الله عليه وسلم: " المؤمن يأكل في مِعَىً واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء ". نعم الكافر يأكل كثيراً ليشبع، أما المؤمن فتكفيه لُقيمات يُقمْنَ صُلْبه، ثم هو لا يأكل إلا إذا جاع، وإذا جاع صار أيُّ طعام بالنسبة له لذيذاً، ولو كان الخبز الجاف والملح، لذلك قال العربي الحكيم: طعام الجائع هنيء. أما الآن فنراهم يجهزون قبل الطعام السَّلَطات والمشَهِّيات والمقبِّلات، لماذا؟ ليأكل الإنسان كثيراً، يأكل حتى التخمة، ثم بعد ذلك يحتاج إلى المسهِّلات والمهضمات.. إلخ. وهذا ليس من صفات المؤمن لأن سيدنا رسول الله وضع لنا المنهج في ذلك، فقال: " نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع " فهذا المنهج يراعي الناحية الاقتصادية، ويوفر الخير والسعادة للكل: اقتصادياً، واجتماعياً، وسياسياً، وأمنياً بدون تكلفة. ثم إن القرآن مُبَاركٌ من ناحية أخرى، فحين تتفاعل مع المنهج، وحين تعشقه يُبيِّن لك الحق سبحانه ألواناً من الأسرار يتعجَّب منها غيرك، ويفتح عليك فُتُوحات عجيبة، ألم يتعجَّبْ موسى - عليه السلام - وهو نبيّ الله من عمل العبد الصالح، والعبد الصالح عبد الله على منهج موسى، ومع ذلك أمر الله موسى أنْ يتبعَ العبد الصالح، وأن يتعلَّم منه، لكنه يتبعه بإخلاص وبعشق، فلما اتبعه موسى بعشق وإخلاص تعلَّم منه الأعاجيب، وهذا المعنى ورد في قوله تعالى:يِٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ }

السابقالتالي
2