الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ ٱلْكَوْثَرَ } * { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنْحَرْ } * { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلأَبْتَرُ }

{ إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ ٱلْكَوْثَرَ } أي: الخير الكثير من القرآن والحكمة والنبوة والدين الحق والهدى وما فيه من سعادة الدارين. روى ابن جرير عن أبي بشر قال: سألت سعيد بن جبير عن الكوثر، فقال: هو الخير الكثير الذي آتاه الله إياه. فقلت لسعيد: إنا كنا نسمع أنه نهر في الجنة. فقال: هو من الخير الذي أعطاه الله إياه { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنْحَرْ } قال الإمام: أي: فاجعل صلاتك لربك وحده، وانحر ذبيحتك مما هو نسك لك لله وحده، فإنه هو مربيك ومسبغ نعمه عليك دون سواه، كما قال تعالى:قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ } [الأنعام: 162 - 163] { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلأَبْتَرُ } قال ابن جرير: أي: إن مبغضك يا محمد، وعدوك، هو الأبتر. يعني: الأقل الأذل المنقطع دابره الذي لا عقب له.

روى ابن إسحاق عن يزيد بن رومان قال: كان العاص بن وائل إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " دعوه فإنه رجل أبتر لا عقب له. فإذا هلك انقطع ذكره " فأنزل الله هذه السورة. وعن عطاء قال: نزلت في أبي لهب. وذلك حين مات ابن لرسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب أبو لهب إلى المشركين فقال: بتر محمد الليلة. فأنزل الله في ذلك السورةَ. وقال شمر بن عطية: نزلت في عقبة بن أبي معيط. قال ابن كثير: والآية تعم جميع من اتصف بذلك، ممن ذكر وغيرهم.

وقال الإمام: كان المستهزئون من قريش كالعاص بن وائل وعقبة بن أبي معيط وأبي لهب وأمثالهم، إذا رأوا أبناء النبيّ صلى الله عليه وسلم يموتون، يقولون: بتر محمد. أي: لم يبق له ذكر في أولاده من بعده، ويعدون ذلك عيبا يلمزونه به وينفرون به الناس من أتباعه وكانوا إذا رأوا ضعف المسلمين وفقرهم وقلتهم يستخفون بهم ويهونون أمرهم، ويعدون ذلك مغمزاً في الدين. ويأخذون القلة والضعف دليلا على أن الدين ليس بحق، ولو كان حقّاً لنشأ مع الغني والقوة، شأن السفهاء مع الحق في كل زمان أو مكان غلب فيه الجهل. وكان المنافقون إذا رأوا ما فيه المؤمنون من الشدة والبأساء يمنون أنفسهم بغلبة إخوانهم القدماء من الجاحدين. وينتظرون السوء بالمسلمين لقلة عددهم وخلوّ أيديهم من المال. وكان الضعفاء من حديثي العهد بالإسلام من المؤمنين، تَمُرُّ بنفوسهم خواطر السوء عندما تشتد عليهم حلقات الضيق. فأراد الله سبحانه أن يمحص من نفوس هؤلاء، ويبكت الآخرين، فأكد الخبر لنبيه، أن ما يخيله النظر القصير قليلا، هو الكثير البالغ الغاية في الكثرة. ليؤكد له الوعد بأنه هو الفائز، وأن متبعه هو الظافر، وأن عدوه هو الخائب، الأبتر الذي يمحى ذكره ويعفى أثره.

السابقالتالي
2