الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلأَبْتَرُ }

قوله: { هُوَ ٱلأَبْتَرُ }: يجوزُ أَنْ يكونَ " هو " مبتدأً، و " الأبترُ " خبرُه والجملةُ خبرُ " إنَّ " ، وأَنْ يكون فصلاً وقال أبو البقاء: " أو توكيدٌ " وهو غَلَطٌ منه لأنَّ المُظْهَرَ لا يُؤَكِّدُ بالمضمر. والأبترُ: الذي لا عَقِبَ له، وهو في الأصلِ الشيءُ المقطوع، مِنْ بَتَرَه، أي: قطعه. وحمارٌ ابترُ: لا ذَنَبَ له. ورجلٌ أُباتِرٌ بضم الهمزة: قاطعُ رَحِمِه قال:
4660ـ لَئيمٌ نَزَتْ في أَنْفِه خُنْزُوانَةٌ   على قَطْعِ ذي القربىٰ أَحَدُّ أُباتِرُ
وبَتِر هو بالكسرِ: انقطعَ ذَنَبُه.

وقرأ العامة " شانِئَك " بالألفِ اسمُ فاعل بمعنىٰ الحالِ أو الاستقبالِ أو الماضي. وقرأ ابن عباس " شَنِئَك " بغيرِ ألفٍ. فقيل: يجوزُ أَنْ يكونَ بناءَ مبالغةٍ كفَعَّال ومِفْعال. وقد أثبته سيبويهِ، وأنشد:
4661ـ حَذِرٌ أُموراً لا تَضِيرُ وآمِنُ   ما ليسَ مُنْجِيَه من الأقْدارِ
وقال زيد الخيل:
4662ـ أتاني أنهم مَزِقون عِرْضي   جِحاشٌ الكِرْمَلَيْنِ لها فَديدُ
فإنْ كانَ بمعنى الحالِ أو الاستقبالِ فإضافتُه لمفعولِه مِنْ نصبٍ. وإن كان بمعنى المُضِيِّ فهي لا مِنْ نصبٍ. وقيل: يجوزُ أن يكونَ مقصوراً مِنْ فاعِل كقولِهم: " بَرُّ وبارٌّ، وبَرِدٌ وبارِدٌ.

قوله: { فَصَلِّ } الفاء للتعقيب والتسبيبِ، أي: تَسَبَّبَ عن هذه المِنَّةِ العظيمة وعَقَبها أَمْرُك بالتخَلِّي لعبادةِ المُنْعِمِ عليكَ وقَصْدِك إليه بالنَّحْرِ، لا كما تفعلُ قُرَيْشٌ مِنْ صَلاتِها ونَحْرِها لأصنامِها.

وقال أهل العلم: قد احتوَتْ هذه السورةُ، على كونِها أَقْصَرَ سورةٍ في القرآن، على معانٍ بليغةٍ وأساليبَ بديعةٍ وهي اثنان وعشرون. الأول: دلالةُ استهلالِ السورةِ على أنه إعطاءٌ كثيرٌ من كثير. الثاني: إسنادُ الفعل للمتكلم المعظِّم نفسَه. الثالث: إيرادُه بصيغةِ الماضي تحقيقاً لوقوعِه كـأَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ } [النحل: 1]. الرابع: تأكيدُ الجملةِ بـ إنَّ. الخامس: بناءُ الفعلِ على الاسمِ ليُفيدَ الإِسنادَ مرتين. السادس: الإِتيانُ بصيغةٍ تَدُلُّ على مبالغةِ الكثرةِ. السابع: حَذْفُ الموصوفِ بالكَوْثَر؛ لأنَّ في حَذْفِه مِنْ فَرْطِ الشِّياعِ والإِبهامِ ما ليس في إثباتِه. الثامن: تعريفُه بأل الجنسيةِ الدالَّةِ على الاستغراق. التاسع: فاءُ التَّعْقيب، فإنَّها كما تقدَّم دالَّةٌ على التَّسْبيب، فإنَّ الإِنعامَ سببٌ للشُّكر والعبادةِ. العاشر: التَّعْريضُ بمَنْ كانَتْ صلاتُه ونَحْرُه لغيرِ اللَّهِ تعالى. الحادي عشر: أنَّ الأمرَ بالصَّلاةِ إشارةٌ إلى الأعمالِ الدينية التي الصلاةُ قِوامُها وأفضلُها، والأمرُ بالنَّحْرِ إشارةٌ إلى الأعمالِ البدنيةِ التي النَّحْرُ أَسْناها. الثاني عشر: حَذْفُ متعلَّقِ " انحَرْ " إذ التقديرُ: فَصَلِّ لربِّك وانْحَرْ له. الثالثَ عشرَ: مراعاةُ السَّجْعِ فإنَّه من صناعةِ البديعِ العاري عن التَّكلُّفِ. الرابعَ عشرَ قوله: { رَبِّك } في الإِتْيان بهذه الصفةِ دونَ سائرِ صفاتِه الحُسْنىٰ دلالةُ على أنَّه هو المُصْلحُ له المُرَبِّي لنِعَمِه فلا تلتمِسْ كلَّ خيرٍ إلاَّ منه. الخامسَ عشرَ: الالتفاتُ من ضميرِ المتكلمِ إلى الغائب في قولِه: " لربِّك " السادسَ عشرَ: جَعْلُ الأمْرِ بتَرْكِ الاهتبالِ بشانِئيه للاستئناف، وجَعْلُه خاتمةً للإِعراضِ عن الشانىءِ، ولم يُسَمِّه ليشملَ كلَّ مَنْ اتَّصَفَ - والعياذُ بالله - بهذه الصفةِ القبيحة، وإن كان المرادُ به شخصاً مَعْنِيَّاً.

السابقالتالي
2