الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ ٱلْكَوْثَرَ } * { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنْحَرْ } * { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلأَبْتَرُ }

يقول الحق جلّ جلاله: { إِنَّا أعطيناك الكوثرَ } أي: الخير الكثير، مَن شرف النبوة الجامعة لخير الدارين، والرئاسة العامة، وسعادة الدنيا والآخرة " فَوْعل " من الكثرة، وقيل: هو نهر في الجنة، أحلى من العسل، وأشد بياضاً منَ اللبن، وأبرد من الثلج، وألين من الزبد، حافتاه: اللؤلؤ والزبرجد، وأوانيه من فضّةٍ عدد نجوم السماء، لا يظمأ مَن شرب منه أبداً، وأول وارديه: فقراء المهاجرين، الدنسو الثياب، الشعث الرؤوس، الذي لا يتزوّجون المنعَّمات، ولا يفتح لهم أبواب الشُدد ـ أي: أبواب الملوك ـ لخمولهم، يموت أحدهم وحاجته تلجلج في صدره، لو أقسم على الله لأبرَّه. هـ. وفسَّره ابن عباس بالخير الكثير، فقيل له: إنَّ الناس يقولون: هو نهر في الجنة، فقال: النهر من ذلك الخير، وقيل: هو: كثرة أولاده وأتباعه، أو علماء أمته، أو: القرآن الحاوي لخيَري الدنيا والدين. رُوي: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يا رب اتخذت إبراهيم خليلاً، وموسى كليماً، فبماذا خصصتني؟ " فنزلت:أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَىٰ } [الضحى:6]، فلم يكتفِ بذلك، فنزلت: { إِنَّا أعطيناك الكوثر } فلم يكتفِ بذلك، وحُقَّ له ألاَّ يكتفي لأنَّ القناعة من الله حرمان، والركون إلى الحال يقطع المزيد، فنزل جبريلُ وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنَّ الله تبارك وتعالى يقرئك السلام، ويقول لك: إن كنتُ اتخدتُ إبراهيم خليلاً، وموسى كليماً، فقد اتخذتك حبيباً، فوعزتي وجلالي لأختارن حبيبي على خليلي وكليمي، فسكن صلى الله عليه وسلم. والفاء في قوله: { فَصَلِّ لربك وانْحَرْ } لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فإنَّ إعطاءه تعالى إياه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ما ذكر من العطية التي لم يُعطها ولن يُعطها أحد من العالمين، مستوجبة للمأمور به أيّ استيجاب أي: فدُم على الصلاة لربك، الذي أفاض عليك هذه النِعم الجليلة، التي لا تُضاهيها نعمة، خالصاً لوجهه، خلافاً للساهين المرائين فيها، لتقوم بحقوق شكرها، فإنَّ الصلاة جامعة لجميع أقسام الشكر. { وانْحَرْ } البُدن، التي هي خيار أموال العرب، وتصدَّق على المحاويج خلافاً لمَن يَدَعَهم ويمنعهم ويمنع عنهم الماعون، وعن عطية: هي صلاة الفجر بجَمْعٍ، والنحر بمِنى، وقيل: صلاة العيد والضَحية، وقيل: هي جنس الصلاة، والنحر وضْعُ اليمين على الشمال تحت نحره. وقيل: هو أن يرفع يديه في التكبير إلى نحره. وعن ابن عباس: استقبل القبلة بنحرك، أي: في الصلاة. وقاله الفراء والكلبي. { إِنَّ شَانِئَكَ } أي: مُبغضك كانئاً مَن كان { هو الأبْتَرُ } الذي لا عَقِب له، حيث لم يبق له نسْل، ولا حُسن ذكر، وأمّا أنت فتبقى ذريتك، وحُسن صيتك وآثار فضلك إلى يوم القيامة، لأنَّ كل مَن يُولد مِن المؤمنين فهم أولادك وأعقابك، وذِكْرك مرفوع على المنابر، وعلى لسان كل عالم وذاكر، إلى آخر الدهر، يبدأ بذكر الله ويُثني بذكرك، ولك في الآخرة ما لا يندرج تحت البيان، فمثلك لا يقال فيه أبتر إنما الأبتر شانئك المَنْسي في الدنيا والآخرة.

السابقالتالي
2