الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ }

عطف أشياء خاصة هي ممَّا شمِله عموممن شر ما خلق } الفلق 2، وهي ثلاثة أنواع من أنواع الشرور أحدها وقت يغلب وقوع الشر فيه وهو الليل. والثاني صنف من الناس أقيمت صناعتهم على إرادة الشر بالغير. والثالث صنف من الناس ذُو خُلُق من شأنه أن يبعث على إلحاق الأذى بمن تعلق به. وأعيدت كلمة { من شر } بعد حرف العطف في هذه الجملة. وفي الجملتين المعطوفتين عليها مع أن حرف العطف مغنٍ عن إعادة العامل قصداً لتأكيد الدعاء، تعرضاً للإِجابة، وهذا من الابتهال فيناسبه الإِطناب. والغاسق وصف الليل إذا اشتدت ظلمته يقال غَسَق الليل يغسق، إذا أظلم قال تعالىإلى غسق الليل } الإسراء 78، فالغاسق صفة لموصوف محذوف لظهوره من معنى وصفه مثل الجواري في قوله تعالىومن آياته الجوار في البحر } الشورى 32 وتنكير { غاسق } للجنس لأن المراد جنس الليل. وتنكير { غاسق } في مقام الدعاء يراد به العموم لأن مقام الدعاء يناسب التعميم. ومنه قول الحريري في المقامة الخامسة «يا أهل ذا المعنى وقيتُم ضُراً» أي وقيتم كل ضر. وإضافة الشر إلى غاسق من إضافة الاسم إلى زمانه على معنى في كقوله تعالىبَلْ مَكْرُ الليل والنهارِ } سبأ 33. والليل تكثر فيه حوادث السوء من اللصوص والسباع والهوام كما تقدم آنفاً. وتقييد ذلك بظرفِ { إذا وقب } أي إذا اشتدت ظلمته لأن ذلك وقت يتحيّنه الشطَّار وأصحاب الدعارة والعَيث، لتحقّق غلبَة الغفلة والنوم على الناس فيه، يقال أغْدَر الليلُ، لأنه إذا اشتد ظلامه كثر الغدْر فيه، فعبر عن ذلك بأنه أغدَر، أي صار ذا غَدر على طريق المجاز العقلي. ومعنى { وقب } دخل وتغلغل في الشيء، ومنه الوَقْبة اسم النقرة في الصخرة يجتمع فيها الماء، ووقبت الشمس غابت، وخُص بالتعوذ أشد أوقات الليل توقعاً لحصول المكروه.